الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فسبب إشكال السائل هو خلطه بين مفهوم الرخصة الثابتة بالشرع، وهي ما ثبت على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح، والتي تطلق في مقابل العزيمة، وبين مفهوم رخص المذاهب الفقهية، بمعنى الأخذ بالأيسر من كل مذهب، أو تتبع رخص المذاهب، فتتبع الرخص الفقهية اختلف العلماء فيه على ثلاثة أقوال:
ـ الأول: المنع مطلقا، وإليه ذهب ابن حزم، والغزالي، والنووي، والسبكي، وابن القيم، والشاطبي، ونقل ابن حزم وابن عبد البر الإجماع على ذلك.
ـ الثاني: الجواز، وإليه ذهب بعض الحنفية: كالسرخسي وابن الهمام.
ـ الثالث: الجواز بشروط، وقد اختلف القائلون بذلك في بيان الشروط وعدها، فاشترط العز بن عبد السلام ألا يترتب عليه ما يُنقَض به حكم الحاكم، وهو ما خالف النص الذي لا يحتمل التأويل، أو الإجماع، أو القواعد الكلية، أو القياس الجلي، وزاد القرافي ألاّ يجمع بين المذاهب على وجهٍ يخرق به الإجماع.
وهناك من زاد شروطا أخرى، والمقصود أن هذا الخلاف إنما يجري في مسألة الأخذ برخص الفقهاء أو ما يعرف بتتبع الرخص.
وأما الرخص الشرعية: فالخلاف بين العلماء ليس في جواز العمل بها، وإنما في المفاضلة بين ذلك وبين الأخذ بالعزيمة، فمن العلماء من فضل العمل بالرخصة الشرعية مطلقا، ومنهم من عكس، ومنهم من فصَّل في ذلك بحسب حال المكلف وذهب إلى عدم التفضيل مطلقا، وقد أورد الشاطبي أدلة تفضيل الرخصة، وأدلة تفضيل العزيمة، ثم قال: فإن قيل: الحاصل مما تقدم إيراد أدلة متعارضة، وذلك وضع إشكال في المسألة، فهل له مخلص أم لا؟ قيل: نعم، من وجهين:
أحدهما: أن يوكل ذلك إلى نظر المجتهد، فإنما أورد هنا استدلال كل فريق، من غير أن يقع بين الطرفين ترجيح، فيبقى موقوفا على المجتهد، حتى يترجح له أحدهما مطلقا، أو يترجح له أحدهما في بعض المواضع، والآخر في بعض المواضع، أو بحسب الأحوال.
والثاني: أن يجمع بين هذا الكلام وما ذكر في كتاب ـ المقاصد ـ في تقرير أنواع المشاق وأحكامها، فإنه إذا تؤمل الموضعان، ظهر فيما بينهما وجه الصواب إن شاء الله. اهـ.
وهذا يعني أن اختلاف الحال وتباين قدرة المكلفين ترجح الرخصة أحيانا والعزيمة أحيانا، وهذا يتوقف على نظر المجتهد في كل حال بخصوصه، وذكر الدكتور عبد الكريم النملة في كتابه: المهذب في علم أصول الفقه المقارن ـ اختلاف العلماء في ذلك، وذكر أدلتهم، ثم قال: والحق عندي ـ والله أعلم ـ أنه لا تفضل الرخصة على العزيمة، ولا العزيمة على الرخصة، وذلك لأن سبب الرخصة ـ وهو العذر من مشقة، وحاجة، وضرورة ـ لا ضابط له معين واضح جلي يتساوى فيه جميع المكلَّفين، فالعذر من مشقة وحاجة وضرورة أمر إضافي نسبي، لا أصلي، فكل مكلف فقيه نفسه في الأخذ بها ما لم يجد مانعا شرعيا يمنعه عن الأخذ بها، وهو داخل تحت قاعدة: المشقة تجلب التيسير ـ فالمشقة والكلفة التي يجدها المكلف عن الإتيان بالحكم الشرعي الأصلي تكون سبباً شرعيا للتخفيف والتسهيل، وهو أيضاً داخل في معنى قاعدة: إذا ضاق الأمر اتسع... وقلنا: إن كل مكلَّف يعتبر فقيه نفسه، هذا من حيث الجملة، العذر من مشقة أو ضرورة أو حاجة تختلف بحسب الأزمان والأعمال، وقوة العزائم وضعفها، وليس كل الناس في تحمل المشاق على حد سواء، فمثلاً: لو أصاب زيداً من المكلَّفين مرض قد يتحمله دون حاجته إلى الأخذ بالترخيص، بينما لو أصاب نفس المرض عمراً، فقد لا يتحمله فتكون الرخصة مشروعة بالنسبة لعمرو، دون زيد، وكذلك من كان من المضطرين معتاد على الصبر على الجوع، ولا تختل حالته بسببه، فإنه لا يرخص له في أكل الميتة، بخلاف الشخص الذي لا يستطيع الصبر على الجوع، فهذا يرخص له في أكل الميتة، لأنه يخشى عليه من الهلاك، أو إلحاق ضرر به، فعرفنا أن سبب الرخصة وهو العذر من مشقة وضرر وحاجة ليس له ضابط معين، بل هو أمر إضافي بالنسبة إلى كل مخاطب، فهو راجع إلى تقدير المشقة والحرج الذي يحصل للمكلف وإلى اجتهاده في ذلك بحسب طاقته الخاصة... اهـ.
وقد سبق لنا بيان الحكم في كل من الرخص الشرعية والرخص الفقهية، فراجع الفتاوى التالية أرقامها: 4145، 140418، 189635.
والله أعلم.