الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، وييسر لكم أمركم، ويفتح عليكم من بركات السماء والأرض، ويسعدكم في هذه الدنيا وفي الآخرة، كما نسأله سبحانه أن يرينا وإياكم الحق حقا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه، وأن يقسم لنا من خشيته ما يحول به بيننا وبين معصيته، وأن يؤتينا من لدنه رحمة ويهيئ لنا من أمرنا رشدا، وأن يحبب إلينا الإيمان ويزينه في قلوبنا، ويكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، ويجعلنا من الراشدين.
وأما ما ذكرته في كلامك، فجوابه: أن المسكن الذي يأوي إليه المرء من ضروراته المؤكدة، فمن لم يجد مالاً ليشتري به مسكناً، وكان لا يقدر على الاستئجار نظراً لقلة ما يحصل عليه من أجر مقابل عمله، ولم يجد سبيلا مشروعة إليه جاز له ارتكاب الحرام من أجل تلك الضرورة، وراجع في ذلك الفتاوى التالية أرقامها: 6689، 106553، 15092.
ومما يجب التنبه إليه أن حدود الله لا تنتهك بأيسر الحيل وأوهن الأسباب، وكيف يرضى المسلم مخالفة أمر ربه ومجاوزة حدوده وهو يجد مندوحة دون ذلك؟ يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ {البقرة:278ـ 279}.
وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء. رواه مسلم.
والذي حرم الربا ونهانا عنه هو خالقنا اللطيف بنا الخبير بما يصلح به حالنا وما يفسد به أمرنا وما تؤول إليه عاقبتنا، قال تعالى: أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ {الملك:14}.
قد يحرص المرء منا على ما فيه فساد أمره ويكره ما فيه صلاحه، لأننا لا ندرك العواقب ولا نعلم مآلات الأمور ولا بواطنها قال تعالى: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ {البقرة:216}.
إذا كان الأمر كذلك ونحن نشاهده في أنفسنا كل حين، أفلا نختار ما اختاره الله لنا وأرشدنا إليه راضين مطمئنين، ونحذر مما نهانا عنه وحذرنا منه خائفين وجلين مما يشتمل عليه المحظور من شر وفساد وما قد يورثه من ندامة؟ وهل يلوم العاقل من حال بينه وبين ما فيه فساد أمره واضطراب حاله؟ ثم إن المشايخ لا يحللون ولا يحرمون من تلقاء أنفسهم، بل ما أثبت الشرع حرمته بينوه، وما أذن فيه وأباحه أحلوه وهكذا، كما ننبه هنا على أن طرق الحلال كثيرة لمن ابتغاها وتحراها, وأن كثرة الربح أو قلته ليس مقياسا للإباحة، واللجان الشرعية ليست هي من يحدد هامش الربح في البنوك الإسلامية، والربا محرم كثرت الفائدة أو قلت، والربح جائز كثرت نسبته أو قلت، قال تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا {البقرة: 275}.
وقال: قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ {المائدة:100}.
ثم إن المعاملات الربوية قد يكون ظاهرها كما ذكرت، فتشترط فائدة يسيرة حتى يقع المرء في شراكها ثم تتضاعف عليه الفوائد بسبب التأخر في السداد، فلا يستطيع المرء الخلاص منها فيما بعد، وحتى لو التزم المرء في السداد، ولم تتضاعف عليه الفوائد فما بيده من مال ممحوق البركة ولو كثر، قال تعالى: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ {البقرة:276}.
وهذا الكلام ليس معناه تزكية جميع معاملات مصرف بعينه حتى لو كان يرفع شعار الأسلمة، بل الأمر يعرض على الشرع، فما كان منضبطا بالضوابط الشرعية يجوز، وما ليس كذلك يحرم، ولو علم أصحاب الأموال وأرباب البنوك رغبة الناس في البنوك الإسلامية، ورأوا منهم انصرافا عن المعاملات المحرمة لتنافسوا في إنشاء البنوك الإسلامية، ولأذنت الدولة فيها كما هو مشاهد في العالم الإسلامي بل والغربي، لأن هَمَّ التجار هو الربح، فإن وجدوه كثيرا من الحرام تنافسوا فيه، وإن وجدوه من الحلال أقبلوا عليه، فليظهر المسلم عزة بدينه وليحمل أصحاب الأموال على أن يقدموا له من الخدمات ما يوافق شرع ربه لا أن يتنازل هو لهم فيكون وفق أهوائهم، ويريدون أن يكيف دينه وفق ذلك دون ضرورة.
وخلاصة القول أن الحرام لا يجوز ارتكابه ما لم تتحق الضرورة الملجئة إليه.
والله أعلم.