الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الحجة لا تقوم إلا إذا بلغت المكلف على وجه يفهمها؛ إذ إن من قيام الحجة فهمها ومعرفتها.
قال ابن القيم- رحمه الله- في مدارج السالكين: فإن حجة الله قامت على العبد بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وبلوغ ذلك إليه، وتمكنه من العلم به سواء علم أو جهل. فكل من تمكن من معرفة ما أمر الله به ونهى عنه، فقصر عنه ولم يعرفه، فقد قامت عليه الحجة، والله سبحانه لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه. انتهى.
ومما تجدر الإشارة إليه أن قيام الحجة يختلف باختلاف الأحوال، والأزمان، والأشخاص.
قال ابن القيم- رحمه الله- في طريق الهجرتين: قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة، والأمكنة، والأشخاص. فقد تقوم حجة الله على الكفار في زمان دون زمان، وفي بقعة وناحية دون أُخرى، كما أنها تقوم على شخص دون آخر؛ إما لعدم عقله وتمييزه كالصغير والمجنون، وإما لعدم فهمه كالذي لا يفهم الخطاب، ولم يحضر ترجمان يترجم له. فهذا بمنزلة الأصم الذي لا يسمع شيئاً، ولا يتمكن من الفهم. انتهى.
واعلم أن من أسباب كثرة الخوض والاختلاف في اشتراط فهم الحجة من عدمها، هو الإجمال الواقع في هذه الكلمة؛ حيث إن لها مفهومين، يختلف حكم كل مفهوم فيه عن الآخر.
يوضح ذلك الشيخ صالح آل الشيخ- حفظه الله- في شرحه للعقيدة الطحاوية، حيث يقول: فهم الحجة على قسمين: يُرَادُ بفهم الحجة فهم معاني الأدلة، فهذا لا بد منه، فلا يُكْتَفَى في إقامة الحجة على أعجمي لا يفهم اللغة العربية بأن تُتْلَى عليه آية باللغة العربية، وهو لا يفهم معناها، ويقال قد بَلَغَهُ القرآن والله يقول: لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام:19]، هذا ليس بكافٍ، لا بد أن تكون الحجة بلسان من أقيمت عليه ليفهم المعنى، قال سبحانه: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ. [إبراهيم:4].
المعنى الثاني لفهم الحجة أن يَفْهَمَ كونَ هذه الحجة أرجَحَ من شبهته التي عنده. المشركون -كما قررنا لكم في شرح كشف الشبهات- عندهم علم، وعندهم كتب، وعندهم حُجَجَ كما أخبر الله في كتابه. ففَهْمُ حُجَّةْ الرسول، وفهم القرآن، وفهم حجة النبي العقلية التي أدلى بها عليهم بعد الوحي، هذه معناها أن يفهموا المعنى. إذا كانوا هم فهموا المعنى؛ لكن مثل ما يقول القائل: ما اقْتَنَعْ أَنَّ هذه الحجة أقوى من الشبهة التي عنده، فهذا ليس بشرط. فإذن ما يُشْتَرَطْ من فهم الحجة هو القسم الأول؛ وهو:- فهم المعنى. - فهم دلالة الآية باللغة العربية ونحو ذلك. أما فهم الحجة بمعنى كون هذه الحجة أرجح في المقصود، وأدلّ على بطلان عبادة غير الله أو على بطلان الباطل، هذا ليس بشرط، المهم يفهم معناها ودلالتها، ثم بعد ذلك الله يُضل من يشاء، ويهدي من يشاء. انتهى.
وللفائدة يرجى مراجعة هاتين الفتويين: 39870 ، 158921 .
والله أعلم.