الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فبارك الله فيكم ووفقكم لما يحب ويرضى، وأما ما سألت عنه: فجوابه أن ليس من ديننا الإسلامي الحنيف أن يظل المسلم جاهلا خاملا فقيرا ضعيفا، كلا؛ بل ديننا هو دين قراءة وعلم وقوة، لكن في المقابل ليس من ديننا أيضا عدم التزام المسلم بالضوابط الشرعية في معاملاته والسير وفق هواه، ولا تعارض بين هذا وذاك، فيمكن للمسلم أن يتعلم وأن يتكسب ولا يتعدى حدود ربه ولا يرتكب المحرمات ما لم تلجئه ضرورة إلى ذلك، فإن ألجأته الضرورة لارتكاب الحرام أبيح له منه حينئذ ما يدفع به الضرورة، كما قال تعالى: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ {الأنعام:119}.
هذا مع التنبيه على أن الالتزام بثوابت الشرع لم يكن يوما من الأيام سببا في تأخر المسلمين! بل العكس هو الصحيح، فلما ضعف الإيمان وارتكبت المحرمات وتجاوز المؤمنون حدود ربهم بأهون الحيل هانوا وذلوا وتأخروا بعد تقدمهم وازدهارهم في شتى المجالات، والدين الإسلامي لم يحرم إلا ما اشتمل على مفسدة محضة، أو راجحة؛ كالخمر والربا والزنا والميتة والقمار والميسر وهلم جرا، قال تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {الأعراف:157}.
ومعلوم أن الربا من المحرمات التي جاء بها نص القرآن، وتوعد عليها ما لم يتوعد على غيرها، فقال عز وجل: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:279].
أي إن لم تتركوا الربا فقد حاربتم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن حارب الله ورسوله فليأذن بالحرب هو كذلك. ومع شدة حرمة الربا، وغلظ ذنب فاعليه، فقد يأذن فيه الشرع عند الضرورة كغيره من المحرمات، وقد وضع العلماء للضرورة ضوابط لا بد من مراعاتها، لئلا تتخذ وسيلة لارتكاب المحرم دون تحققها، ومن أهم هذه الضوابط:
أولاً: أن تكون الضرورة قائمة لا منتظرة، فلا يجوز الاقتراض بالربا تحسباً لما قد يكون في المستقبل.
ثانياً: ألا يكون لدفع الضرورة وسيلة أخرى إلا مخالفة الأوامر والنواهي الشرعية، فلا يجوز الإقبال على القرض الربوي مع وجود البديل المشروع أو الأخف حرمة.
ثالثاً: يجب على المضطر مراعاة قدر الضرورة، لأن ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها، ولذلك قرر الفقهاء أنه لا يجوز للمضطر أن يأكل من الميتة، إلا ما يسد رمقه.
رابعاً: ألا يقدم المضطر على فعل لا يحتمل الرخصة بحال، فلا يجوز له قتل غيره افتداء لنفسه، لأن نفسه ليست أولى من نفس غيره، ونحو هذا.
فإذا ما تحققت هذه الضوابط في الضرورة جاز ارتكاب الحرام بسببها حينئذ، وإلا فلا. وهذا هو حكم الربا وتلك هي الضوابط التي تبيح ارتكابه.
وأما تنزيل واقعة بعينها فيحتاج فيه إلى تصورها، وما أشرت إليه من كون الجاليات المسلمة في تلك البلاد لها فقه يخصها بحيث يراعي ظروف الضرورات والحاجيات لديها ونحوها كلام صحيح، وحال تلك الجاليات معتبر، وهذا الفقه هو ما اصطلح عليه المتأخرون بفقه الأقليات، وقد تكلم عليه الشيخ عبد الله بن بيه في الجزء الثاني من كتابه صناعة الفتوى وفقه الأقليات وذكر: أنه فقه يعالج أوضاع مجتمع مسلم صغير يعيش وسط مجتمع كبير غير مسلم في بلد لا سلطان فيه للإسلام، تسوده قوانين بشرية لا صلة لها بشريعة الإسلام إلا بقدر ما يشترك فيه العقلاء من الأنام، فاحتاجت حالهم لاجتهاد.
وقد بينا المقصود بهذا المصطلح في الفتوى رقم: 72660.
لكن مع التنبيه على أن كون الأقليات المسلمة في بلاد الغرب لها أحوال وظروف خاصة، فإن هذا لا يعني تغير الأحكام الشرعية ذاتها وتعطيلها في حقها، لأن الأحكام الشرعية ثابتة لا تتغير متى ما اتفقت صور مسائلها واتحد مناط تعلقها، سواء أكان ذلك في دار إسلام أو دار كفر، لكن قد يتغير مناط الحكم بسبب تغير الجزئيات أو دخول العوارض المعتبرة شرعا، وعلى ذلك تتغير الفتوى عند تنزيلها على المسائل والوقائع المعينة.
وعلى كل، فالربا محرم تحريما قاطعا لا يجوز تقحمه إلا عند تحقق الضرورة المبيحة له، وقد بينا الضوابط الشرعية المبيحة لا رتكابه، وما ذكرته من حاجتك لمتابعة دراستك لا يعتبر ضرورة في حق الأمة ولا في حق نفسك، وانظر الفتويين رقم: 20702، ورقم: 49918.
والله أعلم.