الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله أن يعافيك ويصرف عنك السوء ويهديك لأرشد أمرك، فقد بلغ منك الوسواس مبلغا عظيما وأضر بك ضررا بالغا، وسبب ذلك هو استرسالك مع الوساوس واستسلامك لها وعدم مجاهدتك نفسك في تركها والإعراض عنها، وقد بينا مرارا وتكرارا أن علاج الوساوس الذي لا علاج لها غيره ولا أنجع منه هو الإعراض عنها وعدم الاكتراث بها والالتفات إليها، وانظري الفتويين رقم: 51601، ورقم: 134196.
واعلمي أن الصلاة والوضوء من أيسر العبادات، بل الشريعة كلها مبناها على اليسر ورفع الحرج على العباد، فاستغراق الوضوء عندك نصف ساعة والغسل ساعتين أو نحو ذلك، والمبالغة في قص الأظافر حتى تشققها، وغسل السرة حتى إدمائها، كل هذا من الغلو والتنطع في الدين المنهي عنه، فالوضوء لا يستغرق وقتا يذكر، وكذلك الغسل ولا سيما إن كان تحت الدش ونحوه، وإزالة الوسخ إن ترتب عليها إيذاء النفس بجرح الجلد ونحو ذلك، سقط طلبها، فاتقي الله في نفسك واحذري من التمادي مع الوساوس والاسترسال فيها، واعلمي أن يسير الدم معفو عنه، بل يرى بعض أهل العلم طهارة الدم الخارج من الإنسان من غير سبيليه، وعلى افتراض نجاسة الدم، فلا تحكمي بانتقال نجاسته لغيره حتى يحصل لك اليقين الجازم بأنه لامسه، وقد ضبط بعض السلف هذا بأن يحصل اليقين الذي يحلف عليه، فإذا شككت في شيء أنه قد أصابتها نجاسة بملامسته أو بسبب ارتداد الماء على أرضية الحمام، فلا تلتفتي إلى هذا الشك، وابني على الأصل وهو الطهارة، وإذا تيقنت أن موضعا قد أصابته النجاسة، فاغسلي هذا الموضع المتيقن فقط، وما سواه لا تلتفتي إليه..
وأما عن لزوم سماع المصلي نفسه عند القراءة والتكبير: ففيه خلاف بين أهل العلم، فقد ذهب المالكية ـ وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وترجيح الشيخ العثيمين ـ رحمه الله ـ إلى أنه يكفي تحريك اللسان والشفتين وإخراج الحروف من مخارجها، جاء في مواهب الجليل: قال ابن ناجي في شرح الرسالة: اعلم أن أدنى السر أن يحرك لسانه بالقراءة، وأعلاه أن يسمع نفسه فقط، وأدنى الجهر أن يسمع نفسه ومن يليه، وأعلاه لا حد له. انتهى.
زاد في شرح المدونة: فمن قرأ في قلبه في الصلاة فكالعدم، ولذلك يجوز للجنب أن يقرأ في قلبه، وقال ابن عرفة: وسمع سحنون ابن القاسم: تحريك لسان المسرّ فقط يجزئه، وأحبُّ إسماع نفسه. انتهى.
وقال المرداوي ـ رحمه الله: واختار الشيخ تقي الدين ابن تيمية الاكتفاء بالإتيان بالحروف، وإن لم يسمعها، وذكره وجها في المذهب، قلت: والنفس تميل إليه. انتهى.
وقال الشيخ العثيمين ـ رحمه الله ـ مرجحا هذا القول في الشرح الممتع: وقوله: ويقول، إذا قلنا: إن القول يكون باللسان، فهل يُشترط إسماع نفسه لهذا القول؟ في هذا خِلافٌ بين العلماء، فمنهم مَن قال: لا بُدَّ أن يكون له صوتٌ يُسمعَ به نفسَه، وهو المذهب، وإن لم يسمعه مَنْ بجنبه، بل لا بُدَّ أنْ يُسمع نفسَه، فإنْ نَطَقَ بدون أن يُسمعَ نفسَه فلا عِبْرَة بهذا النُّطقِ، ولكن هذا القول ضعيف، والصَّحيحُ: أنه لا يُشترط أن يُسمِعَ نفسَه، لأن الإسماعَ أمرٌ زائدٌ على القول والنُّطقِ، وما كان زائداً على ما جاءت به السُّنَّةُ فعلى المُدَّعي الدليلُ، وعلى هذا: فلو تأكَّدَ الإنسان من خروج الحروف مِن مخارجها، ولم يُسمعْ نفسَه، سواء كان ذلك لضعف سمعه، أم لأصوات حولَه، أم لغير ذلك، فالرَّاجحُ أنَّ جميعَ أقواله معتبرة، وأنه لا يُشترط أكثر مما دلَّت النُّصوصُ على اشتراطِه وهو القول. انتهى.
وعليه؛ فنرى أن لا حرج عليك أن تعملي بهذا المذهب، خصوصا لما تعانينه من وساوس كثيرة، وننبهك إلى أن سماع صوت المرأة الأجنبية جائز، ما لم يكن فيه خضوع بالقول، وما لم يؤد سماعه إلى الوقوع في الفتنة، ففي صحيح البخاري عن أم عطية قالت: بايعنا النبي صلى الله عليه وسلم، فقرأ علينا أن لا نشرك بالله شيئاً... الحديث، وفيه: ونهانا عن النياحة، فقبضت امرأة منا يدها، وقالت: فلانة أسعدتني، وأنا أريد أن أجزيها، فلم يقل شيئاً، فذهبت، ثم رجعت.. الحديث.
قال ابن حجر في شرحه لهذا الحديث: وفي هذا الحديث أن كلام الأجنبية مباح سماعه، وأن صوتها ليس بعورة.
وأما ما يتعلق بالوسوسة في الركوع: فاعلمي أن للركوع حدا مجزئا، وهو أن ينحني المصلي بقدر ما تمس يده ركبته، وأما كمال الركوع وهو أن يقبض المصلي بيديه على ركبتيه مفرجتي الأصابع ويمد ظهره ويجعل رأسه حياله ويفرج بين عضديه وجنبيه، فهذا مستحب ولكن لا يلزم، فإذا فعل هذا فقد حاز الفضيلة، وإذا اقتصر على الأول أجزأه وصحت صلاته، قال البهوتي ـ رحمه الله ـ في الروض: ويضعهما أي يديه على ركبتيه مفرجتي الأصابع استحبابا.... ويكون المصلي مستويا ظهره ويجعل رأسه حيال ظهره فلا يرفعه، ولا يخفضه، روى ابن ماجه عن وابصة بن معبد قال: رأيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي، وكان إذا ركع سوى ظهره حتى لو صب الماء عليه لاستقر ـ ويجافي مرفقيه عن جنبيه، والمجزئ الانحناء بحيث يمكن مس ركبتيه بيديه. انتهى.
وأخيرا ننصحك بعدم إعادة الصلوات السابقة بسبب توهمك أنها باطلة، فإن هذا باب أراد الشيطان أن يفتحه عليك ليوقعك في المشقة والحرج، ولو كان ما تتوهمينه صحيحا ـ وهو بطلان بعض الصلوات السابقة بسبب الجهل ـ فلا حرج عليك في الأخذ بقول شيخ الإسلام في هذه المسألة، وهو عدم الإعادة، حيث قال رحمه الله: والصحيح في جميع هذه المسائل عدم وجوب الإعادة، لأن الله عفا عن الخطأ والنسيان، ولأنه قال: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ـ فمن لم يبلغه أمر الرسول في شيء معين لم يثبت حكم وجوبه عليه، ولهذا لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم عمر وعمارا لما أجنبا -فلم يصل عمر، وصلى عمار بالتمرغ- أن يعيد واحد منهما، وكذلك لم يأمر أبا ذر بالإعادة لما كان يجنب ويمكث أياما لا يصلي، وكذلك لم يأمر من أكل من الصحابة حتى يتبين له الحبل الأبيض من الحبل الأسود بالقضاء، كما لم يأمر من صلى إلى بيت المقدس قبل بلوغ النسخ بالقضاء. انتهى مختصرا من الفتاوى الكبرى.
وللفائدة يرجى مراجعة الفتاوى التالية أرقامها: 62420، 125256، 130855.
والله أعلم.