الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا يجوز تتبع رخص المذاهب الفقهية بالأخذ بالأيسر منها، تشهيا واتباعا للهوى، وهذا هو قول جمهور أهل العلم، وقد نُقل عليه الإجماع، ومع ذلك فقد ذكرنا في الفتوى التي ذكرها السائل، وهي برقم: 206083، بقية مذاهب أهل العلم في ذلك ما بين مجيز مطلقا، ومجيز بشروط، ولم نغفل بيان ذلك كما قد يفهم من كلام السائل! وأحلنا في نهايتها على الفتوى رقم: 4145، وفيها ذكر طرف من أدلة القول الراجح وآثار السلف فيه.
هذا من حيث الإجمال، وأما من حيث التفصيل: فكلام الحافظ ابن عبد البر ذكره في كتاب جامع بيان العلم وفضله في باب: ذكر الدليل من أقاويل السلف على أن الاختلاف خطأ وصواب يلزم طالب الحجة عنده ـ وذكر بعض ما خطَّأ فيه بعضهم بعضا وأنكره بعضهم على بعض عند اختلافهم، وأورد في آخر الباب أثر سليمان التيمي: إن أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله ـ ثم قال: هذا إجماع، لا أعلم فيه خلافا. اهـ.
فلم يذكر الحافظ أبو عمر ابن عبد البر إجماعا مجردا، بل مدعما بالدليل، وأما ابن حزم: فقد قال في مراتب الإجماع: واتفقوا أن طلب رخص كل تأويل بلا كتاب ولا سنة فسق لا يحل. اهـ.
ولا يتعارض هذا مع ما نقله السائل من فتاوي عليش، لأنه مقيد بقوله: من غير تتبع للرخص ـ وقد قال عليش نفسه بعد ذلك: وأما تتبع أخف المذاهب وأوفقها لطبع الصائر إليها والذاهب: فمما لا يجوز، فضلا عن كونه محبوبا مطلوبا، قاله الرياشي وغيره.
ثم نقل كلام ابن عبد البر وابن حزم في حكاية الإجماع على ذلك، ثم قال: وعن أبي محمد بن أبي زيد: من أخذ بقول بعض الأمصار لم أجرحه إلا أن يكون شاذا ما لم يأخذ بكل ما وافقه من كل قائل، وعلل ما ذكره ابن حزم وأبو عمر من الإجماع على منع تتبع رخص المذاهب بأنه مؤد إلى إسقاط التكليف في كل مسألة مختلف فيها، وقال أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله تعالى: إذا صار المكلف في كل نازلة عنت له يتتبع رخص المذاهب وكل قول وافق فيها هواه فقد خلع ربقة التقوى وتمادى في متابعة الهوى، ونقض ما أبرمه الشرع وأخر ما قدمه.... اهـ.
ثم تكلم بعد ذلك على هذا الإجماع محل السؤال فقال: لا يقال الإجماع الذي حكيته عن ابن حزم وأبي عمر ينتقض ويرد بقول عز الدين بن عبد السلام الشافعي ـ رحمه الله تعالى ـ في بعض فتاويه: وللعامي أن يعمل برخص المذاهب، وإنكار ذلك جهل ممن أنكره، لأن الأخذ بالرخص محبوب، ودين الله يسر: وما جعل عليكم في الدين من حرج { الحج: 78} فإن قلنا بتصويب المجتهدين، فكل الرخص صواب ولا يجوز إنكار، وإن لم نقل بذلك، فالصواب غير منحصر في العزيمة، وإن كان الأفضل الأخذ بالعزيمة تورعا واحتياطا واجتنابا لمظان الريب ـ لا سيما والشيخ عز الدين هذا ممن لا يتقرر اتفاق مع مخالفته باعتبار رأيه وروايته، كما شهد له به الثقة العدل الضابط المحقق أبو عبد الله بن عرفة ـ رحمه الله تعالى ـ لأنا نقول: ابن حزم وأبو عمر قد حكيا الإجماع ومستنده النقل، وعز الدين لم يبين بفتواه المستندة، فيحتمل أن يكون رأيا رآه، فتفرد به، أو لازم قول، وهو الظاهر من قوة كلامه، وأيا ما كان فهو إحداث قول بعد تقدم الإجماع فيكون باطلا لتضمنه تخطئة الأمة، وتخطئتها ممتنعة على ما تقرر في أصول الفقه، وسواء قلنا انقراض العصر شرط أم لا، لا يقال إجماعات أبي عمر مدخولة، وقد حذر الناصحون منها، ومن اتفاقات ابن رشد، واحتمالات الباجي، واختلاف اللخمي، لأنا نقول: غاية هذا نسبة الوهم إلى أبي عمر من غير دليل، وإن سلم على سبيل المنازلة، فما الذي جرح إجماع ابن حزم، لا سيما والشيوخ يقولون: أصح الإجماعات إجماعاته... اهـ.
ولكلامه بقية مفيدة فليرجع إليها السائل.
الخلاصة أن المنقول من فتاوي عليش إنما هو في ما إذا كان القول الأخف لمجتهد معتبر ولم يظهر فساده وبطلانه لمخالفة الدليل ونحوه، ولم يكن غرض الآخذ به التشهي واتباع الهوى، وقد سبق أن نقلناه في الفتوى رقم: 149469.
ومن ذلك أيضا: الأخذ بالرخصة عند الحاجة أو اشتباه الحكم، وراجع في ذلك الفتويين رقم: 134759، ورقم: 170931.
وراجع لمزيد الفائدة الفتوى رقم: 203266.
والله أعلم.