الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن البغض والكره القلبي لأحكام الإسلام من أمارات الكفر والضلال، كما أن محبة الدين وتعاليمه من أمارات كمال الإيمان، وقد ذم الله تعالى الكارهين للدين في عدة آيات وجعل ذلك من علامات الكفر، فقال: كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ {الشورى: 13}.
وقال: لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ {الزخرف:78}.
وقال: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فأحبط أعمالهم {محمد: 9}.
وأما نفور الطبع من بعض الأحكام لثقلها ومشقتها على نفسه مع تسليمه لها، لكونها من عند الله وأنها عدل وحكمة: فهذا لا يكفر به صاحبه، قال الطاهر بن عاشور في تفسيره التحرير والتنوير وهو يبين المراد بالحرج في قول الله تعالى: ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت {النساء } وليس المراد الحرج الذي يجده المحكوم عليه من كراهية ما يلزم به إذا لم يخامره شك في عدل الرسول وفي إصابته وجه الحق، وقد بين الله تعالى في سورة النور كيف يكون الإعراض عن حكم الرسول كفرا، سواء كان من منافق أم من مؤمن، إذ قال في شأن المنافقين: وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون * وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين * أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله.... ثم قال: إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا ـ لأن حكم الرسول بما شرع الله من الأحكام لا يحتمل الحيف، إذ لا يشرع الله إلا بالحق، ولا يخالف الرسول في حكمه شرع الله تعالى. انتهـى.
ومن هذا الباب ما جاء في كراهة بعض الصحب للجهاد، فالمراد بالكراهية فيه نفور الطبع عنه، لما فيه من مشقة القتال على النفس البشرية وخطره على الروح، لا أن الصحب كرهوا أمر الله، كذا قال البغوي في تفسيره، وقال ابن كثير في التفسير: قوله تعالى: وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ {البقرة: 216} أي شديد عليكم ومشقة، وهو كذلك فإنه إما أن يقتل أو يجرح مع مشقة السفر ومجالدة الأعداء، ثم قال: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ {البقرة: 216} أي لأن القتال يعقبه النصر والظفر على الأعداء والاستيلاء على بلادهم وأموالهم وذراريهم وأولادهم: وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ {البقرة: 216} وهذا عام في الأمور كلها قد يحب المرء شيئا وليس له في خير ولا مصلحة، ومن ذلك القعود عن القتال قد يعقبه استيلاء العدو على البلاد والحكم. اهـ.
وقال ابن الجوزي في زاد المسير عند تفسير قوله تعالى: وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ { الأنفال: 5} فيها قولان: أحدهما: كارهون خروجك، والثاني: كارهون صرف الغنيمة عنهم، وهذه كراهة الطبع، لمشقة السفر والقتال، وليست كراهة لأمر الله تعالى. اهـ.
وأما التوبة من الكراهة الكفرية ـ لو حصلت ـ فهي واجبة، بل إنها شرط من شروط الدخول في الإسلام للمرتد مع رجوعه عما كان عليه من كراهة حكم الإسلام، وتجب كذلك الصلاة التي حان وقتها، ولكن تجب التوبة أولا، لأن من وقع في مكفر لا تصح صلاته إلا بعد توبته من الكفر، لأن الإسلام شرط من شروط الصلاة، والكافر لايقبل عمله، وقد نص أهل العلم على أن توبة المرتد تكون بإسلامه، فإذا نطق بالشهادتين فقد دخل في الإسلام، إلا أن تكون ردته بسبب جحد فرض ونحوه، فإن توبته حينئذ تكون بالنطق بالشهادتين مع إقراره بالمجحود به، قال في زاد المستقنع: وتوبة المرتد وكل كافر إسلامه، بأن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ومن كفر بجحد فرض ونحوه فتوبته مع الشهادتين إقراره بالمجحود به، أو قول: أنا بريء من كل دين يخالف دين الإسلام. انتهى.
ولا يمكن أن تكون هذه التوبة صحيحة إذا كان المرتد مصراً على عمله الذي كفر به، أو كان عازماً على العودة إليه، أو لم يندم على فعله، لأن عدم ندمه دليل على رضاه به، فلا بد إذاً من توبة المرتد كي تكون صحيحة مقبولة عند الله تعالى من توافر شروط التوبة فيها من الإقلاع عن الذنب، والعزم على عدم العودة إليه، والندم عليه.
والله أعلم.