الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله أن يزيدك هدى وإخلاصا له سبحانه، واعلمي أنه لا يزمك إخبار جدتك بختمك للقرآن العظيم، وليس لها حق في ذلك، فإن الجدة وإن كان برها واجبا، إلا أن ما ليس لها فيه غرض صحيح لا تجب طاعتها فيه، لا سيما إن كان أمرها ذلك مخالفا لما جاء الشرع بالترغيب فيه - كإخفاء العمل الصالح -.
جاء في الآداب الشرعية لابن مفلح: قال ابن حزم في كتاب الإجماع قبل السبق والرمي: اتفقوا على أن بر الوالدين فرض، واتفقوا على أن بر الجد فرض، كذا قال، ومراده والله أعلم واجب. ونقل الإجماع في الجد فيه نظر، ولهذا عندنا يجاهد الولد ولا يستأذن الجد وإن سخط .. وذكر أبو البركات أن الوالد لا يجوز له منع ولده من السنن الراتبة، وكذا المكري، والزوج، والسيد وقد تقدم نص أحمد، والأول أقيس، ومقتضى كلام صاحب المحرر هذا أن كل ما تأكد شرعا لا يجوز له منع ولده، فلا يطيعه فيه، وكذا ذكر صاحب النظم لا يطيعهما في ترك نفل مؤكد كطلب علم. اهـ. باختصار .
وقال الهيتمي: وحيث نشأ أمر الوالد أو نهيه عن مجرد الحمق لم يلتفت إليه، أخذا مما ذكره الأئمة في أمره لولده بطلاق زوجته. وكذا يقال في إرادة الولد لنحو الزهد ومنع الوالد له، أن ذلك إن كان لمجرد شفقة الأبوة فهو حمق وغباوة، فلا يلتفت له الولد في ذلك، وأمره لولده بفعل مباح لا مشقة على الولد فيه يتعين على الولد امتثال أمره إن تأذى أذى ليس بالهين إن لم يمتثل أمره. ومحله أيضا حيث لم يقطع كل عاقل بأن ذلك من الأب مجرد حمق وقلة عقل؛ لأني أقيد حل بعض المتأخرين للعقوق بأن يفعل مع والده ما يتأذى به إيذاء ليس بالهين بما إذا كان قد يعذر عرفا بتأذيه به، أما إذا كان تأذيه به لا يعذره أحد به لإطباقهم على أنه إنما نشأ عن سوء خلق وحدة حمق، وقلة عقل فلا أثر لذلك التأذي، وإلا لوجب طلاق زوجته لو أمره به ولم يقولوا به. اهـ. من الفتاوى.
وقال: ولكن لو كان في غاية الحمق، أو سفاهة العقل فأمر أو نهى ولده بما لا يعد مخالفته فيه في العرف عقوقا، لا يفسق ولده بمخالفته حينئذ لعذره، وعليه فلو كان متزوجا بمن يحبها، فأمره بطلاقها ولو لعدم عفتها فلم يمتثل أمره، لا إثم عليه كما سيأتي التصريح به عن أبي ذر - رضي الله عنه -، لكنه أشار إلى أن الأفضل طلاقها امتثالا لأمر والده، وعليه يحمل الحديث الذي بعده: «أن عمر أمر ابنه بطلاق زوجته فأبى، فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمره بطلاقها» . وكذا سائر أوامره التي لا حامل عليها إلا ضعف عقله وسفاهة رأيه، ولو عرضت على أرباب العقول لعدوها أمورا متساهلا فيها، ولرأوا أنه لا إيذاء لمخالفتها، هذا هو الذي يتجه إليه في تقرير ذلك الحد. من الزواجر.
وعلى هذا، فلا وجه لقول جدتك: ( إذا ماعلمتيني لست بحل ) ، وينبغي لك أن تشكريها على حرصها، وأن تبيني لها السبب الباعث لك على كتمان ختمك للقرآن عنها، وأن ذلك من تمام الإخلاص، وأنه أقرب إلى القبول عند الله.
وأما إخبارك بختمك للقرآن فليس رياء بمجرده، فإن الرياء كما عرفه الغزالي: أصله طلب المنزلة في قلوب الناس بإيرائهم خصال الخير، إلا أن الجاه والمنزلة تطلب في القلب بأعمال سوى العبادات، وتطلب بالعبادات. واسم الرياء مخصوص بحكم العادة بطلب المنزلة في القلوب بالعبادة وإظهارها. فحد الرياء هو: إرادة العباد بطاعة الله. فالمرائي هو العابد، والمراءى هو الناس المطلوب رؤيتهم بطلب المنزلة في قلوبهم، والمراءى به هو الخصال التي قصد المرائي إظهارها، والرياء هو قصده إظهار ذلك. اهـ من الإحياء.
لكن لا ريب في أن الأكمل والأولى ألا يخبر العبد أحدا بطاعاته ما استطاع، فإن العمل الصالح كلما أُخفي كان أدنى إلى الإخلاص، وأصون عن القوادح من الرياء والسمعة، وإرادة الدنيا.
وراجعي لمزيد الفائدة الفتويين: 125435 ، 132182.
والله أعلم.