الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا شكّ في أن طلب العلم الشرعي أمر عظيم شأنه عند الله، كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعاً: وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمْ الْمَلائِكَةُ وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ.
وقال الله تعالى: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ {التوبة:122}.
وفي الصحيحين عن معاوية بن أبي سفيان: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ.
ولما دعا النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس بالخير قال: اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل.
ومِن طلب العلم الشرعي تعلّمُ القرآن وتعليمه وتدارسه، كما في الحديث الماضي ذكره، وكما في البخاري من حديث عثمان بن عفان مرفوعاً: خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه.
ومن طلب العلم ما هو فرض عينٍ كتعلم الوضوء والصلاة، كما عند ابن ماجه وغيره، عن أنسٍ يرفعه: طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ.
أما القرآن: فليس في حفظه شيء واجب وجوباً عينياً غير الفاتحة، لأنها لا تصح صلاة القادر على تعلمها إلا بها.
ثم التكسب أيضاً أمر مطلوب، وبه التعفف عن سؤال الناس، كما في الصحيحين: لأن يأخذ أحدكم حبله، فيأتي بحزمة الحطب على ظهره فيبيعها، فيكف الله بها وجهه، خير له من أن يسأل الناس أعطوه، أو منعوه.
وزاد مسلم في رواية: فإن اليد العليا أفضل من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول.
وفي البخاري: ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود ـ عليه السلام ـ كان يأكل من عمل يده.
ويكون التكسب واجباً فرضَ عينٍ على من وجبت عليه نفقة نفسه أو عياله، ولم يكن عنده ما ينفق به، فيكون واجباً في مقدار كفايتهم في المأكل والملبس والمسكن، بحسب قدرته، جاء في الموسوعة الفقهية: الكسب قد يكون فرضاً، وهو الكسب بقدر الكفاية لنفسه وعياله وقضاء ديونه ونفقة من يجب عليه نفقته، قال النبي صلى الله عليه وسلم: كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوته ـ فإن ترك الاكتساب بعد ذلك وسِعهُ، وإن اكتسب ما يدخره لنفسه وعياله فهو في سعة، فقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحبس لأهله قوت سَنَتِهم، وقد يكون الكسب مستحباً، وهو كسب ما زاد على أقل الكفاية ليواسي به فقيراً، أو يصل به قريباً. اهـ.
وقد افتتح محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة ـ رحمهما الله ـ كتابه الكسب بقوله: طلب الكسْب فَرِيضَة على كل مسلم كما أَن طلب العلم فَرِيضَة. اهـ.
وعليه، فما دمت تعلمت الفاتحة، فليس شيء آخر من القرآن واجباً عليك حفظه وجوباً عينياً، فإن كنت محتاجا إلى ما تنفق به على نفسك، أو على من تجب عليك نفقته كزوجة وأولاد وأبٍ وأمٍّ فقيرين لا كسب لهما، فليس لك أن تترك التكسب لحفظ القرآن، إلا أن تدخر لهم كفايتهم مدة ترك الكسب، وكذا إن كان عليك ديونٌ حالّةٌ، وجب تكسبك لسدادها، أما إن لم يكن ثمةَ من تجب عليك نفقته، أو كان ووفرت لنفسكَ وله الكفاية مدةً، فحفظ القرآن فيها أفضل من التكسب، لا سيما إذا كان فيه نفعٌ عامٌّ متعدٍّ، كأن تجد في نفسك القدرة على أن تحفظه ثم تعلمه الناس بعد ذلك، كما في البخاري: خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه.
قال السرخسي في المبسوط: بعد ما اكتسب ما لا بد منه، هل الاشتغال بالاكتساب أفضل أم التفرغ للعبادة؟ قال بعض الفقهاء رحمهم الله: الاشتغال بالكسب أفضل، وأكثر مشايخنا ـ رحمهم الله ـ على أن التفرغ للعبادة أفضل.
ثم قال: وجه القول الآخر، وهو الأصح: أن الأنبياء والرسل ما اشتغلوا بالكسب في عامة الأوقات، ولا يخفى على أحد أن اشتغالهم بالعبادة في عمرهم كان أكثر من اشتغالهم بالكسب، ومعلوم أنهم كانوا يختارون لأنفسهم أعلى الدرجات، ولا شك أن أعلى مناهج الدين طريق المرسلين ـ عليهم السلام ـ وكذا الناس في العادة إذا أحرجهم أمر يحتاجون إلى دفعه عن أنفسهم يشتغلون بالعبادات لا بالكسب والناس، إنما يتقربون إلى العباد دون المكتسبين والدليل عليه أن الاكتساب يصح من الكافر والمسلم جميعاً فكيف يستقيم القول بتقديمه على ما لا يصح إلا من المؤمنين خاصة، وهي العبادة؟. اهـ.
وقد قدّمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحبس لأهله قوت سنتهم، وهو في البخاري من حديث عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ فإذا كانت العبادة في مثل ذلك خيراً من التكسب، فحفظ القرآن وطلب العلم أولى، لأنهما أفضل من نوافل غيرهما من العبادات، قال النووي في مقدمة المجموع بعد ذكره لفضل العلم: والحاصل أنهم متفقون على أن الاشتغال بالعلم أفضل من الاشتغال بنوافل الصوم والصلاة والتسبيح ونحو ذلك من نوافل عبادات البدن، ومن دلائله سوى ما سبق أن نفع العلم يعم صاحبه والمسلمين، والنوافل المذكورة مختصة به. اهـ.
وقال سهل بن عبد الله التستري: من أراد النظر إلى مجالس الأنبياء فلينظر إلى مجالس العلماء، فاعرفوا لهم ذلك. اهـ.
وفي الحديث: عن أبي أمامة الباهلي، قال: ذُكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان أحدهما عابد والآخر عالم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله وملائكته وأهل السموات والأرضين حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير. قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وفي حديث أبي الدرداء: وإن فضل العالم على العابد، كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً، ولا درهماً، إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر.
قال الشافعي رحمه الله: طلب العلم أفضل من صلاة النافلة. وقال: ليس بعد الفرائض أفضل من طلب العلم.
وقال: من تعلم القرآن عظمت قيمته، ومن نظر في الفقه نبل قدره، ومن نظر في اللغة رق طبعه، ومن نظر في الحساب جزل رأيه، ومن كتب الحديث قويت حجته، ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه.
وقد قدمنا أن تقديم حفظ القرآن والعلم على الكسب إنما هو بعد تحصيلك لما يكفيك ويكفي من تعول من النفقة الواجبة وحقوق الناس مدةَ الاشتغال به، كما أن تقديمه على العبادة إنما هو فيما زاد على الواجب تَعلُّمُه وما زاد على الواجب من العبادات وراجع فتوانا رقم: 115399، بعنوان: ترتيب العلوم من حيث الأفضلية.
وفقنا الله وإياك لما يحبه ويرضاه.
والله أعلم.