الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن شرط قبول العمل الصالح وترتب الثواب عليه أن يبتغى به وجه الله تعالى، وقد تواترت النصوص من الكتاب والسنة على ذلك، فعن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه.
وفي جامع العلوم والحكم لابن رجب: وقوله: لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا {النساء:114} فنفى الخير عن كثير مما يتناجى به الناس إلا في الأمر بالمعروف، وخص من أفراده الصدقة والإصلاح بين الناس، لعموم نفعها، فدل ذلك على أن التناجي بذلك خير، وأما الثواب عليه من الله، فخصه بمن فعله ابتغاء مرضات الله، وإنما جعل الأمر بالمعروف من الصدقة والإصلاح بين الناس وغيرهما خيرا، وإن لم يبتغ به وجه الله، لما يترتب على ذلك من النفع المتعدي، فيحصل به للناس إحسان وخير، وأما بالنسبة إلى الأمر، فإن قصد به وجه الله وابتغاء مرضاته، كان خيرا له، وأثيب عليه، وإن لم يقصد ذلك لم يكن خيرا له، ولا ثواب له عليه، وهذا بخلاف من صام وصلى وذكر الله، يقصد بذلك عرض الدنيا، فإنه لا خير له فيه بالكلية، لأنه لا نفع في ذلك لصاحبه لما يترتب عليه من الإثم فيه، ولا لغيره لأنه لا يتعدى نفعه إلى أحد، اللهم إلا أن يحصل لأحد به اقتداء في ذلك... وروى ابن أبي الدنيا بإسناد منقطع، عن عمر، قال: لا عمل لمن لا نية له، ولا أجر لمن لا حسبة له ـ يعني: لا أجر لمن لم يحتسب ثواب عمله عند الله عز وجل. اهـ.
وقال الشيخ حافظ الحكمي في سلم الوصول:
شَرْطُ قَبُولِ السَّعْيِ أَنْ يَجْتَمِعَا * فِيهِ إِصَابَةٌ وَإِخْلَاصٌ مَعَا
لِلَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ لَا سِوَاهُ مُوَافِقَ الشَّرْعِ الَّذِي ارْتَضَاهُ.
ومن المعلوم أن المكره على العمل ليست له إرادة معتبرة شرعا، جاء في الكليات للكفوي: الإكراه لغة: حمل الإنسان على أمر لا يريده طبعا أو شرعا، وشرعا: في المبسوط: أنه اسم لفعل من يفعل الأمر لغيره فينتفي به اختياره، وفي الوافي: هو عبارة عن تهديد القادر على ما هدد غيره بمكروه على أمر بحيث ينتفي به الرضا، وفي القهستاني: هو فعل سوء يوقعه بغيره فيفوت رضاه، أو يفسد اختياره مع بقاء أهليته. اهـ.
وعليه؛ فالمكره على العمل الصالح لا ثواب له، لعدم تحقيقه للنية، وقصد وجه الله بالعمل.
وأما الندم على العمل الصالح: فليس من أسباب حبوط ثواب العمل، قال ابن القيم: القياس وأصول الشرع يقتضي أنه لا يصح رفض شيء من الأعمال بعد الفراغ منه، وأن نية رفضه وإبطاله لا تؤثر شيئا، فإن الشارع لم يجعل ذلك إليه ولو صح ذلك لتمكن المكلف من إسقاط جميع أعماله الحسنة والقبيحة في الزمن الماضي، فيقصد إبطال ما مضى من حجة وجهاده وهجرته وزكاته وسائر أعماله الحسنة والقبيحة، فيقصد إبطال زناه وسرقته وشربه وقتله ورباه وأكله أموال اليتامى وغير ذلك، فما بال الوضوء والصلاة والصوم والحج دون سائر الأعمال خرج فيها الخلاف، فالمشهور في مذهب مالك صحة الرفض في الصلاة والصوم، وفي الحج والطهارة خلاف، وفي الطهارة خاصة وجهان لأصحابنا، وليس في هذه المسائل نص ولا إجماع ولا فرق صحيح بينها وبين سائر الأعمال، بل المعلوم من قاعدة الشرع أن إبطال ما وقع من الأعمال إنما يكون بأسباب نصبها الله تعالى مبطلات لتلك الأعمال؛ كالردة المبطلة للإيمان، والحدث المبطل للوضوء، والإسلام المبطل للكفر، والتوبة المبطلة لآثار الذنوب، وقريب منه المن والأذى المبطل للصدقة، وفي الرياء اللاحق بعد العمل خلاف، فهذه الأسباب جعلها الشارع مبطلات لآثار الأعمال، وأما الرفض فلا دليل في الشرع يدل على أنه مبطل ولا يمكن طرده وليس له أصل يقاس عليه، بل قد يقترن بالعمل أمور تمنع صحته وترتب أثره عليه؛ كالرياء والسمعة وغيرهما، وليس هذا إبطالا لما صح، وإنما هو مانع من الصحة.اهـ.
وراجعي الفتوى رقم: 177445.
والله أعلم.