الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فمن المعلوم أن سب الدين أمره خطير جدا, فهو ردة عن الإسلام، وقد سئل الشيخ عليش ـ المالكي: ما قولكم في رجل جرى على لسانه سب الدين من غير قصد، هل يكفر، أو لا بد من القصد؟ فأجاب: نعم ارتد، لأن السب أشد من الاستخفاف، وقد نصوا على أنه ردة، فالسب ردة بالأولى، وفي المجموع: ولا يعذر بجهل وزلل لسان. انتهى.
ويجب الإنكار على من سب الدين ـ عياذا بالله ـ بحسب الطاقة, فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كل مسلم بحسب قدرته, ولا يسقطه كون الإنسان ليس له خبرة في دعوة الناس ما دام المنكر لا خلاف في حرمته؛ كما هو الحال في سب الدين، والمسلم لا بد له أن يقول الحق ولو كره الناس ذلك، ويصبر على ما يلقاه من استهزاء واستغراب, فقد قال الله تعالى: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُور {لقمان:17}.
وقال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ هَيْبَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ فِي حَقٍّ إِذَا رَآهُ أَوْ شَهِدَهُ أَوْ سَمِعَهُ. رواه أحمد والترمذي وابن ماجه.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع أصحابه على قول الحق في كل حال، كما في الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت ـ رضي الله عنه ـ قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول الحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم.
قال النووي ـ رحمه الله ـ في شرحه: معناه: نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر في كل زمان ومكان، الكبار والصغار، لا نداهن فيه أحدًا، ولا نخافه إلا هو، ولا نلتفت إلى الأئمة، ففيه القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأجمع العلماء على أنه فرض كفاية، فإن خاف من ذلك على نفسه أو ماله أو على غيره، سقط الإنكار بيده، ووجبت كراهته بقلبه، هذا مذهبنا ومذهب الجماهير، وحكى القاضي هنا عن بعضهم أنه ذهب إلى الإنكار مطلقًا في هذه الحالة وغيرها. انتهى.
وقال شيخ الإسلام ـ رحمه الله: فالرجل لو يسمع الكفر والكذب والغيبة والغناء والشبابة من غير قصد منه، بل كان مجتازا بطريق فسمع ذلك لم يأثم بذلك باتفاق المسلمين، ولو جلس واستمع إلى ذلك ولم ينكره لا بقلبه ولا بلسانه ولا يده كان آثما باتفاق المسلمين، كما قال تعالى: وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى لعلهم يتقون ـ وقال تعالى: وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم ـ فجعل القاعد المستمع من غير إنكار بمنزلة الفاعل، ولهذا يقال: المستمع شريك المغتاب، وفي الأثر: من شهد المعصية وكرهها كان كمن غاب عنها، ومن غاب عنها ورضيها كان كمن شهدها، فإذا شهدها لحاجة أو لإكراه أنكرها بقلبه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان. انتهى.
فمما سبق يتبين أنك إذا كنت تتضرر بترك المجلس الذي يفعل فيه المنكر -كما لو كنت في الصف الدراسي- فلا تلزمك مفارقة المجلس؛ وإنما يلزمك الإنكار بحسب استطاعتك، فإن عجزت عن الإنكار باللسان لزمك إنكار المنكر بقلبك وبغضه، ولم يكن عليك إثم في البقاء بالمجلس لتضررك بمفارقته، والله لا يكلف نفسا إلا وسعها، ولكن ينبغي لك أن تترفق في الإنكار عليهم وتتلطف في دعوتهم، فذلك أزكى عند الله، وأدعى إلى الاستماع إليه، ففي الصحيحين من حديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله يحب الرفق في الأمر كله.
وعنها أنه قال: إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه.
وقد ذكرنا في فتوى سابقة كتبا نافعة في أساليب الدعوة برقم: 184699.
وللفائدة يرجى مراجعة هذه الفتوى برقم: 8580.
والله أعلم.