الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فأما الآية الأولى فليس فيها دلالة صحيحة على أن الأرض ثابتة، والكعبة فوقها، وباقي البلدان تحتها! ولعل السائل فهم من كلمة "عميق" أنها لا تدل إلا على البُعد سُفلًا، هذا وإن كان هو الأصل إلا إنه غير لازم، وقد فسره عامة المفسرين بالبعيد، قال ابن كثير: قوله: {عَمِيقٍ} أي: بعيد, قاله مجاهد, وعطاء, والسدي, وقتادة, ومقاتل بن حيان, والثوري, وغير واحد. اهـ.
وقال الخليل بن أحمد في العين: المُتَعَمِّقُ: المُبالِغُ في الأمرِ المنشُودِ فيه، الذي يطلب أقْصَى غايته, والعَمْقُ والعُمْق: ما بَعُدَ من أطراف المفاوز, والأعماق: أطراف المَفاوِزِ البَعيدةِ. اهـ.
وقال الراغب في المفردات: قال تعالى: {من كل فج عميق} أي: بعيد, وأصل العمق: البعد سفلًا، يقال: بئر عميق ومعيق، إذا كانت بعيدة القعر. اهـ. وكذا قال الشنقيطي في أضواء البيان.
وأما دعاء يوشع بن نون - عليه السلام - للشمس: اللهم احبسها علينا. رواه البخاري.
قال ابن حجر في فتح الباري: قال عياض: اختلف في حبس الشمس هنا، فقيل: ردت على أدراجها, وقيل: وقفت, وقيل: بطئت حركتها, وكل ذلك محتمل، والثالث أرجح عند ابن بطال, وغيره. اهـ.
وعلى أية حال: فليس في ذلك ما ينفي أو يثبت دوران الشمس حول الأرض أو العكس؛ لأن ذلك الحكم إنما هو باعتبار ما يبدو للرائي من أن الشمس هي التي تدور, كما ذكر الشيخ ابن عثيمين نفسه في قوله تعالى: حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ [الكهف : 86] فقال: معلوم أنها تغرب في هذه العين الحمئة حسب رؤية الإنسان، وإلَّا فهي أكبر من الأرض، وأكبر من هذه العين الحمئة .. لكن لا حرج أن الإنسان يخبر عن الشيء الذي تراه عيناه بحسب ما رآه. اهـ. وهذا يمكن قوله في كل الآيات التي استدل بها الشيخ ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ كقوله تعالى: وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ [الكهف: 17].
وقد قال الشيخ في موضع آخر: لو فرض أننا أيقنا مثل الشمس أن الليل والنهار يكون تعاقبهما بدوران الأرض لقلنا: إن الله تعالى خاطب الناس بما يفهمون في ذلك الوقت, ويكون طلوع الشمس وغروبها وتزاورها بحسب رؤية الرائي لا باعتبار الواقع. اهـ.
وقد سبق لنا بيان موقف الشيخ ابن عثيمين في مسألة دوران الأرض والشمس، وذلك في الفتوى رقم: 59419.
وينبغي في دراسة هذه المسألة أن نفرق بين النظريات العلمية والحقائق العلمية، فالنظريات التي تفسر بعض الشواهد الكونية لا تعدو مجرد الاحتمال القابل للصواب والخطأ, بخلاف الحقائق العلمية الثابتة التي لا مجال للشك فيها بعد ثبوتها, ككروية الأرض.
ومن أمثلة النظريات العلمية هذه النظريات التي تتناول حقيقة حركة الشمس والأرض, ونسبة كل واحد منها للآخر، فلا يزال فيها جدل علمي كبير بين العلماء المتخصصين, وما هو مشهور من إثبات دوران الأرض حول الشمس لا يعود إلى حقيقة مشاهدة, أو واقع ملموس، وإنما يرجع إلى دقة الحسابات الناشئة من افتراض أن الأرض تدور حول الشمس, وليس العكس.
والحركة ـ التي هي أساس المسألة التي نتحدث عنها ـ كمية نسبية, فإن قلت: إن الأرض تتحرك، فلا بد أن تنسبها إلى شيء ما حتى يصبح قولك معقولًا، فلو تصورنا كونًا فارغًا لا حدود له، ولا يوجد به سوى جرم واحد، فلن نستطيع حينئذ أن نقول إن هذا الجرم ساكن أو متحرك، إذ لا بد أن ننسبه إلى مرجع لكي نقول: إنه متحرك بسرعة كذا بالنسبة إلى هذا المرجع، أو إنه ساكن بالنسبة له.
ومنذ أن ألغت النسبية الخاصة فكرة الأثير, والذي كان يمثل الوسط الساكن والمطلق الذي تتحرك فيه الأجرام السماوية، أصبح قولنا: إن الأرض تدور حول الشمس، مجرد افتراض وجدنا أنه يفيدنا من الناحية العملية أكثر من الافتراض المعاكس.
وخلاصة القول - كما يعبر عنه الفيلسوف الإنجليزي والترستيس - إنه: ليس من الأصوب أن تقول: إن الشمس تظل ساكنة, وأن الأرض تدور من حولها، من أن تقول العكس. غير أن كوبرنكس برهن على أنه من الأبسط رياضيًا أن نقول: إن الشمس هي المركز ... ومن ثم فلو أراد شخص في يومنا الراهن أن يكون "شاذاً" ويقول: إنه لا يزال يؤمن بأن الشمس تدور حول أرض ساكنة، فلن يكون هناك من يستطيع أن يثبت أنه على خطأ.
وقد سبق أن أشرنا إلى ذلك, وأحلنا على بعض الروابط لتفصيله، وذلك في الفتوى رقم: 132984, ولمزيد الفائدة يمكن الاطلاع على الفتوى رقم: 125630.
والله أعلم.