الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد تقدم الكلام عن حكم التسمية على الذبيحة، وذلك في الفتويين رقم: 16637، ورقم: 17995.
وقد بينا أن الراجح هو وجوب التسمية عند الذبح، وهو قول الجمهور، وقد ذكر بعض أدلتهم ابن قدامة ـ رحمه الله ـ في المغني حيث قال: وَأَمَّا الذَّبِيحَةُ: فَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ, أَنَّهَا شَرْطٌ مَعَ الذِّكْرِ, وَتَسْقُطُ بِالسَّهْوِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ, وَالثَّوْرِيُّ, وَأَبُو حَنِيفَةَ, وَإِسْحَاقُ، وَمِمَّنْ أَبَاحَ مَا نسِيَتْ التَّسْمِيَةُ عَلَيْهِ, عَطَاءٌ, وَطَاوُسٌ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ, وَالْحَسَنُ, وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى, وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ, وَرَبِيعَةُ, وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ غَيْرُ وَاجِبَةٍ فِي عَمْدٍ وَلا سَهْوٍ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، لِمَا ذَكَرْنَا فِي الصَّيْدِ، قَالَ أَحْمَدُ: إنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ـ يَعْنِي الْمَيْتَةَ، وَذُكِرَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَنَا, قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَنْ نَسِيَ التَّسْمِيَةَ فَلا بَأْسَ ـ وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِإِسْنَادِهِ عَنْ رَاشِدِ بْنِ رَبِيعَةَ, قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ذَبِيحَةُ الْمُسْلِمِ حَلالٌ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ, إذَا لَمْ يَتَعَمَّدْ، أوَ لأَنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا, وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُمْ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفًا، وقوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ـ مَحْمُولٌ عَلَى مَا تُرِكَتْ التَّسْمِيَةُ عَلَيْهِ عَمْدًا, بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ـ وَالأَكْلُ مِمَّا نُسِيَتْ التَّسْمِيَةُ عَلَيْهِ لَيْسَ بِفِسْقٍ، وَيُفَارِقُ الصَّيْدَ، لأَنَّ ذَبْحَهُ فِي غَيْرِ مَحَلٍّ, فَاعْتُبِرَتْ التَّسْمِيَةُ تَقْوِيَةً لَهُ, وَالذَّبِيحَةُ بِخِلافِ ذَلِكَ. انتهى.
وقال أيضا ـ رحمه الله ـ فيما إذا ترك الكتابي التسمية عن عمد: فَإِنْ تَرَكَ الْكِتَابِيُّ التَّسْمِيَةَ عَنْ عَمْدٍ، أَوْ ذَكَرَ اسْمَ غَيْرِ اللَّهِ، لَمْ تَحِلَّ ذَبِيحَتُهُ. انتهى.
وهذا أحد القولين في مسألة اشتراط التسمية لحل ذبيحة الكتابي، والقول الآخر أنها تحل لنا ولو لم يذكروا اسم الله عليها، وهي رواية عن الإمام أحمد، حكاها الكوسج في مسائله للإمام أحمد وإسحاق بن راهويه، حيث قال: قلت: نصراني ذبح ولم يسم؟ قال ـ أي الإمام أحمد: لا بأس به، قال إسحاق ـ أي ابن راهويه: كما قال. انتهى.
وقال النفراوي المالكي في الفواكه الدواني: ظاهر كلام المصنف كغيره طلب التسمية والنية عند الذكاة من المسلم والكافر، وليس كذلك، فقد قال الأجهوري: محل الوجوب فيهما إذا كان المذكي مسلما، وأما إن كان كافرا فلا يعتبر في أكل ذكاته نية، ولا تسمية. انتهى.
ومما سبق تعلم أن القول الأخير فيه توسعة على الناس ورفع الحرج عنهم، وإن كان العمل بالقول الأول أبعد عن الشبهة. وأما عن جواب الشافعية عن الآية التي سألت عنها: فقد ذكر ذلك الخطيب الشربيني من الشافعية في كتابه مغني المحتاج حيث قال رحمه الله: فَلَوْ تَرَكَهَا وَلَوْ عَمْدًا حَلَّ، لأَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ ذَبَائِحَ أَهْلِ الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ ـ وَهُمْ لا يَذْكُرُونَهَا, وَأَمَّا قوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ـ فَالْمُرَادُ مَا ذُكِرَ عَلَيْهِ غَيْرُ اسْمِ اللَّهِ، يَعْنِي مَا ذُبِحَ لِلأَصْنَامِ بِدَلِيلِ قوله تعالى: وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ـ وَسِيَاقُ الآيَةِ دَلَّ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ قَالَ: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ـ وَالْحَالَةُ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا فِسْقًا هِيَ الإِهْلالُ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى: أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ـ وَالإِجْمَاعُ قَامَ عَلَى أَنَّ مَنْ أَكَلَ ذَبِيحَةَ مُسْلِمٍ لَمْ يُسَمِّ عَلَيْهَا لَيْسَ بِفِسْقٍ. انتهى.
والله أعلم.