الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد ذهب عامة أهل العلم إلى كراهة الطلاق من غير حاجة، وبعضهم ذهب إلى أنه حرام، قال ابن قدامة ـ رحمه الله ـ في المغني عند كلامه عن أقسام الطلاق: .... ومكروه: وهو الطلاق من غير حاجة إليه، وقال القاضي فيه روايتان:
إحداهما: أنه محرم، لأنه ضرر بنفسه وزوجته وإعدام للمصلحة الحاصلة لهما من غير حاجة إليه فكان حراما كإتلاف المال؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: لا ضرر ولا ضرار. انتهى.
وكذلك سؤال المرأة زوجها الطلاق من غير بأس ذهب بعض العلماء إلى أنه مكروه وبعضهم إلى أنه حرام، قال ابن قدامة ـ رحمه الله ـ في المغني: إذا خالعته لغير بغض وخشية من أن لا تقيم حدود الله.... فإنه يكره لها ذلك، فإن فعلت صح الخلع في قول أكثر أهل العلم ـ منهم أبو حنيفة والثوري ومالك والأوزاعي والشافعي ـ ويحتمل كلام أحمد تحريمه. انتهى.
فكما ترين أن الطلاق من غير حاجة، وسؤال الطلاق من غير بأس كلاهما قد اختلف فيه أهل العلم بين الكراهة والحرمة، بل قد ندب سبحانه وتعالى الرجال إلى إمساك زوجاتهن مع الكراهية لهن، فقال جل وعلا: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا {النساء:19}.
قال ابن العربي في الآية: المعنى إن وجد الرجل في زوجته كراهية، وعنها رغبةً، ومنها نفرةً من غير فاحشة ولا نشوز فليصبر على أذاها، وقلة إنصافها، فربما كان ذلك خيراً له. انتهى.
وأما قصة سودة بنت زمعة أم المؤمنين ـ رضي الله عنها ـ فقد خشيت لما كبرت أن يفارقها النبي صلى الله عليه وسلم فوهبت يومها لعائشة ـ رضي الله عنها ـ لا أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر لها رغبته في طلاقها أو أنه طلقها فعلا، فإنه غير صحيح لضعف حديث القاسم بن أبي بزة الذي أخرجه ابن سَعْدٍ: أن النبي صلى الله عليه وسلم طَلَّقَهَا... قال المباركفوري في تحفة الأحوذي: رواية ابن سَعْدٍ هَذِهِ مُرْسَلَةٌ، فَهِيَ لَا تُقَاوِمُ حَدِيثَ ابن عَبَّاسٍ وَمَا وَافَقَهُ فِي أَنَّ سَوْدَةَ خَشِيَتِ الطَّلَاقَ فَوَهَبَتْ. انتهى.
وقال الشوكاني في نيل الأوطار عند شرحه حديث عَائِشَةَ: أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ لِعَائِشَةَ يَوْمَهَا وَيَوْمَ سَوْدَةَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
قال رحمه الله: قَوْلُهُ: وَهَبَتْ يَوْمَهَا ـ فِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ فِي الْهِبَةِ: يَوْمَهَا وَلَيْلَتَهَا ـ وَزَادَ فِي آخِرِهِ ـ تَبْتَغِي بِذَلِكَ رِضَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَفْظُ أَبِي دَاوُد: وَلَقَدْ قَالَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ حِينَ أَسَنَّتْ وَخَافَتْ أَنْ يُفَارِقَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ يَوْمِي لِعَائِشَةَ، فَقَبِلَ ذَلِكَ مِنْهَا، فَفِيهَا وَأَشْبَاهِهَا نَزَلَتْ: وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا {النساء: 128} الْآيَةَ، وَرَوَاهُ أَيْضًا ابْنُ سَعْدٍ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَالتِّرْمِذِيُّ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: فَتَوَارَدَتْ هَذِهِ الرِّوَايَاتُ عَلَى أَنَّهَا خَشِيَتْ الطَّلَاقَ فَوَهَبَتْ. انتهى.
وأخيراً نقول قد يكون الطلاق في بعض الأحيان أشرف وأفضل للمرأة من البقاء مع رجل لا يحبها ولا يكرمها، قال الشيخ ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ في الشرح الممتع: وقد كان أعداء المسلمين يطعنون على المسلمين في جواز الطلاق، لأنهم ما يودون أن تحزن المرأة، مع أن هذا هو العيب حقيقة، لأننا نعلم علم اليقين أن الرجل إذا أمسكها على هون وهو لا يريدها ولا يحبها يحصل لها من التعاسة شيء لا يطاق، لكن إذا طلقها يرزقها الله: وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ {النساء: 130} فكان ما جاء به الإسلام هو الحكمة، والرحمة أيضاً، وإلا فإلزام الإنسان بمعاشرة من لا يحب من أصعب الأمور، حتى قال المتنبي: ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى عدواً له ما من صداقته بُدُّ ـ فمن نكد الدنيا أنك ترى عدواً لك، لكن لا بد أن تصادقه. انتهى.
وللفائدة يرجى مراجعة الفتويين رقم: 52707، ورقم: 139246.
والله أعلم.