الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقولك في صدر سؤالك: (أردت) ظاهره أنه لم يتم التعاقد بينكما بعدُ، فيكون السؤال عن جواز اشتراط المؤجر دفع المستأجر ثمن الكراء سنة كاملة مقدما عند التعاقد؟
فهذا الاشتراط جائز، ويلزمك حكما إن اتفقتما عليه طوعا واختيارا؛ لأنه موافق لمقتضى العقد، ويحقق مصلحة لعاقد وهو المؤجر هنا، والأصل في الشروط الصحة واللزوم.
قال الكاساني في بدائع الصنائع :لو أجر بشرط تعجيل الأجرة، أو شرط على المستأجر أن يعطيه بالأجرة رهناً أو كفيلا جاز.
وفي الموسوعة الفقهية: والقاعدة عند المالكية التأجيل، خلافا للبيع، فالأصل فيه التعجيل، إلا في أربعة مسائل يجب فيها تعجيل الأجرة، وهي: إن شرط ذلك، أو جرت به العادة كما في كراء الدور، والدواب للسفر إلى الحج ....
وقال التقي الحصني في الكفاية: تجب الْأُجْرَة بِنَفس العقد كَمَا يملك الْمُسْتَأْجر بِالْعقدِ الْمَنْفَعَة؛ وَلِأَن الْإِجَارَة عقد لَو شَرط فِي عوضه التَّعْجِيل أَو التَّأْجِيل اتبع، فَكَانَ مطلقه حَالا كَالثّمنِ فِي البيع، نعم إِن شَرط فِيهِ التَّأْجِيل اتبع؛ لِأَن الْمُؤمنِينَ عِنْد شروطهم. فَإِذا حل الْأَجَل وَجَبت الْأُجْرَة كَالثّمنِ فِي البيع، وَهَذَا فِي إِجَارَة الْعين كَقَوْلِه: اسْتَأْجَرت مِنْك هَذِه الدَّابَّة.
وقال الرحيباني في المطالب ممزوجا بالغاية: ((وَيَصِحُّ شَرْطُ تَعْجِيلِهَا) أَيْ: الْأُجْرَةِ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ سَنَةَ تِسْعٍ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ، وَشَرَطَ عَلَيْهِ تَعْجِيلَ الْأُجْرَةِ يَوْمَ الْعَقْدِ (وَ) يَصِحُّ شَرْطُ (تَأْخِيرِهَا) أَيْ: الْأُجْرَةِ بِأَنْ تَكُونَ مُؤَجَّلَةً بِأَجَلٍ مَعْلُومٍ كَالثَّمَنِ.
وهذه هي الحالة الأولى.
والحالة الثانية: أن يكون تم التعاقد بينكما، فيكون السؤال عندها: هل يمكن أن يفرض عليك المؤجر الأجرة عن سنة كاملة مقدما؟
فالجواب يتبع صيغة العقد، فالعقد شريعة المتعاقدين ما لم يخالف الشرع. وفي ذلك ثلاثة احتمالات:
الأول: أن يكون العقد مطلقا ساكتا عن موعد دفع الأجرة، فلم يشترط أحدكما فيه موعدا لدفع الأجرة:
فهذه مسألة خلاف بين الفقهاء، فمن قال بأن المؤجر يملك الأجرة بمجرد العقد كالشافعية، والحنابلة فمقتضى قوله جواز المطالبة بها فورا لثبوت ملكه فيها، ومن قال لا يملكها بمجرد العقد، فمقتضى قوله أنه ليس له أن يطالب بها معجلة قبل استيفاء المنافع وهم المالكية والحنفية.
قال الموفق في المغني: فصل: الحكم الخامس، أن المؤجر يملك الأجرة بمجرد العقد، إذا أطلق ولم يشترط المستأجر أجلا، كما يملك البائع الثمن بالبيع. وبهذا قال الشافعي. وقال مالك، وأبو حنيفة: لا يملكها بالعقد، فلا يستحق المطالبة بها إلا يوما بيوم، إلا أن يشترط تعجيلها. قال أبو حنيفة: إلا أن تكون معينة، كالثوب والعبد والدار.
وجاء في غاية الاختصار: وإطلاقها يَقْتَضِي تَعْجِيل الْأُجْرَة إِلَّا أَن يشْتَرط التَّأْجِيل.
الثاني: أن يشترط المؤجر في العقد أن يكون الدفع مقدما سنة كاملة.
وهذا شرط صحيح كما تقدم في الحالة الأولى، ولازم على المستأجر الالتزام به.
الثالث: أن يشترط المستأجر في العقد أن يكون الدفع شهريا .
فليس للمؤجر والحالة هذه أن يطالبك بأكثر من القسط الشهري، وليس له فسخ العقد حتى استيفاء تمام مدته على ذلك الشرط؛ لأن الإجارة عقد لازم. فهذا شرط صحيح؛ لأنه يوافق مقتضى العقد، وللعاقد (المستأجر) فيه مصلحة، والأصل في الشروط الصحة واللزوم.
قال الموفق في المغني: الحكم السادس، أنه إذا شرط تأجيل الأجر، فهو إلى أجله، وإن شرطه منجما يوما يوما، أو شهرا شهرا، أو أقل من ذلك أو أكثر، فهو على ما اتفقا عليه؛ لأن إجارة العين كبيعها، وبيعها يصح بثمن حال أو مؤجل، فكذلك إجارتها.
والله أعلم.