الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالتظاهر السلمي الذي يراد منه إحقاق حق أو إبطال باطل، لا يجوز التعدي على المشاركين فيه، فضلا عن رميهم بالرصاص ونحو ذلك من أسباب إزهاق الأرواح. فإنْ أُمر الجندي أو الشرطي بذلك، فلا يجوز له فعله؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. والإكراه في مثل هذه الحال غير معتبر، حتى ولو أدى الأمر إلى قتل الجندي نفسه.
قال ابن العربي: لا خلاف بين الأمة أنه إذا أكره على القتل، أنه لا يحل له أن يفدي نفسه بقتل غيره، ويلزمه الصبر على البلاء الذي نزل به. اهـ.
وراجع في ذلك الفتويين: 28646، 16102.
وأما إن كان التظاهر من أجل إبطال حق، أو إحقاق باطل، فالتصدي له من المعروف وليس من المنكر. وإن كان فيه اعتداء على الأنفس، والأموال والأعراض، فلأصحابه حكم الصائل (المعتدي)، فيدفع بالأخف فالأخف.
وراجع ذلك في الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 36610، 107893، 80226. وراجع في شروط جواز المظاهرات وضوابطها الفتويين: 5843، 10028.
وأما مسألة نصح رفقائه من الجنود من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذا واجب بحسب الإمكان، فإن خشي على نفسه من ذلك ضررا معتبرا سقط عنه الوجوب.
قال النووي: أما نصر المظلوم فمن فروض الكفاية، وهو من جملة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنما يتوجه الأمر به على من قدر عليه ولم يخف ضررا. اهـ.
وراجع في ذلك الفتويين: 9358، 155463.
وأما مسألة رمي الرصاص في الهواء، فلا حرج في ذلك إن حصل بطريقة يأمن فيها إصابة أحد من الناس، سواء من المتظاهرين أنفسهم، أو من المار والنظارة. وأما مع الاحتمال القريب من وقوع إصابات، فلا يجوز إطلاق الرصاص بالكلية. ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يشير أحدكم إلى أخيه بالسلاح، فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزع في يده، فيقع في حفرة من النار. وفي رواية لمسلم: من أشار إلى أخيه بحديده، فإن الملائكة تلعنه حتى ينزع وإن كان أخاه لأبيه وأمه.
فإن حصل وأطلق النار في الهواء فأصاب أحدا من النظارة، أو المارة دون قصد قتله، فهو من قتل الخطأ الموجب للدية والكفارة؛ وراجع الفتوى رقم: 1872. وراجع في بيان أنواع القتل وما يترتب على كل نوع من أحكام الفتوى رقم: 11470.
وأما بقية ما في السؤال فيخرج عن وصف السلمية في المظاهرات، ويختلف الحكم بحسب الحال، والأصل أن يُدفع الصائل الظالم بالأخف فالأخف. مع التنبيه على أنه لا يجوز الاعتداء على غير المعتدي، فإن الغالب على مثل هذه المظاهرات أنه لا يمكن تحديد شخص من يرمي الرصاص لكثرة الناس واجتماعهم، وفي هذه الحال يجب الكف عن إطلاق النار، ولأن يلقى العبدُ ربَّه وقد قتِل ظلما، خير له من أن يلقاه قاتلا بغير حق، فقد روى أبو دواد في سياق واحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا من مات مشركا، أو مؤمن قتل مؤمنا متعمدا. وقال صلى الله عليه وسلم: من قتل مؤمنا فاعتبط بقتله ـ أي قتله ظلما ـ لم يقبل الله منه صرفا ولا عدلا. وقال صلى الله عليه وسلم: لا يزال المؤمن معنقا صالحا ما لم يصب دما حراما، فإذا أصاب دما حراما بلح. وراجع الفتوى رقم: 203842.
ثم نذكر السائل في الختام بقول النبي صلى الله عليه وسلم: إن بين يدي الساعة فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا، القاعد فيها خير من القائم، والماشي فيها خير من الساعي، فكسروا قِسيَّكم، وقطعوا أوتاركم، واضربوا سيوفكم بالحجارة، فإن دخل يعني على أحد منكم فليكن كخير ابني آدم. رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد. وفي وصية أخرى: فإن أدركت ذاك فكن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل. رواه أحمد. وصححهما الألباني.
والله أعلم.