الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد تكلمنا على حديث الرجلين من بلي في الفتوى رقم: 225841، وذكرنا أن الذي تأخر نال الفضل، لأنه كان مرابطا وطالبا للشهادة بصدق وزاد على ذلك ما عمله من الأعمال بعد صاحبه، فنال بذلك درجة الفضل عليه.
ثم إن الظاهر أن الأول كان في جهاد الطلب، لما في بعض الروايات التي ذكر ابن عبد البر في التمهيد: فبعث النبي صلى الله عليه وسلم بعثا فخرج فيه أحدهم فاستشهد.
وقد ذكر ابن عبد البر في أسباب تفضيل الثاني: أنه زاد بعده كثيرا من الأعمال الصالحة، فقد روى بسنده: أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين رجلين فقتل أحدهما في سبيل الله، ثم توفي الآخر بعده فصلوا عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما قلتم عليه ـ قالوا: دعونا الله أن يغفر له ويرحمه ويلحقه بصاحبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأين صلاته بعد صلاته وصيامه بعد صيامه وعمله بعد عمله؟ لما بينهما أبعد مما بين السماء والأرض.
ثم قال أبو عمر: يفسر هذا المعنى ويوضحه قوله صلى الله عليه وسلم: خير الناس من طال عمره وحسن عمله ـ وقوله: ألا أخبركم بخياركم؟ قال: بلى، قال: أطولكم أعمارا، وأحسنكم أعمالا.
واعلم أنه لا فرق في أجر الشهادة بين الشهيد في جهاد الطلب وجهاد الدفع، وأما التوفيق بين هذا وبين ما في الحديثين الأخيرين من فضل الشهادة: فلا شك أن الشهيد القتيل في سبيل الله أفضل من رجل مات معه في نفس الوقت من غير المجاهدين حتى ولو كان من جملة الشهداء، لأن الجهاد في سبيل الله هو ذروة سنام الإسلام وأعلى درجاته.. قال الله تعالى: وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا {النساء:95-96}.
وقال تعالى: وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ {آل عمران:169ـ170}.
وسئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الجهاد أفضل؟ قال: من جاهد المشركين بماله ونفسه، قيل: فأي القتل أشرف؟ قال: من أهريق دمه وعقر جواده. رواه أبو داود والنسائي وأحمد، وصححه الألباني.
وأخرج أبو داود في سننه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا: من يبلغ إخواننا عنا أنا أحياء في الجنة نرزق، لئلا يزهدوا في الشهادة، ولا ينكلوا عن الحرب؟ فقال الله تعالى: أنا أبلغهم عنكم، وأنزل الله تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ.
قال الحافظ في الكلام على الشهداء: والذي يظهر أن المذكورين ليسوا في المرتبة سواء، ويدل عليه ما روى أحمد وابن حبان: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي الجهاد أفضل؟ قال: من عقر جواده وأهريق دمه ـ رواه الحسن بن علي الحواني في كتاب المعرفة له بإسناد حسن من حديث ابن أبي خالد، قال: كل موتة يموت بها المسلم فهو شهيد غير أن الشهادة تتفاضل ـ ثم قال: ويتحصل مما ذكر من هذه الأحاديث أن الشهداء قسمان: شهيد الدنيا وشهيد الآخرة، وهو من يقتل في حرب الكفار مقبلاً غير مدبر مخلصاً، وشهيد الآخرة وهو من ذكر، بمعنى أنهم يعطون من جنس أجر الشهداء، ولا تجري عليهم أحكامهم في الدنيا. انتهى.
والله أعلم.