الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن النهي عن الزنا يرد في القرآن الكريم بالمعنيين اللذين جاءا في الحديث الذي أشرت إليه، وعلى أحدهما يترتب الحد بالجلد أو الرجم، وعلى الآخر التعزير باجتهاد الحاكم، فقد روى البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: العينان تزنيان وزناهما النظر... والقلب يتمنى ويشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه.
فالمعنى الأول وهو زنا العين.. يدل عليه عموم قول الله تعالى: ولا تقربوا الفواحش ـ وقوله تعالى: ولا تقربوا الزنا ـ أي مقدماته من النظر وغيره فضلا عن الوقوع فيه، جاء في تفسير ابن كثير: يَقُولُ تَعَالَى ناهيا عباده عن الزنا وعن مقاربته ومخالطة أسبابه ودواعيه: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً..
وجاء في التفسير الوسيط: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا ـ ولا تدخلوا في شيء من مقدمات الزنا، فضلا عن مباشرته.
وجاء في مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية: وَالنَّظَرُ إلَى الْعَوْرَاتِ حَرَامٌ دَاخِلٌ فِي قَوْله تَعَالَى: قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ ـ وَفِي قَوْلِهِ: وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ ـ فَإِنَّ الْفَوَاحِشَ وَإِنْ كَانَتْ ظَاهِرَةً فِي الْمُبَاشَرَةِ بِالْفَرْجِ أَوْ الدُّبُرِ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ الْمُلَامَسَةِ وَالنَّظَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.. فَإنها أَيْضًا تَتَنَاوَلُ كَشْفَ الْعَوْرَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ مُبَاشَرَة.
ويدل على المعنى الثاني قول الله تعالى: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ {الفرقان:68}.
أي لا يرتكبون جريمة الزنا، وواضح من السياق واقترانه بأكبر الكبائر من الشرك وقتل النفس أنه الزنا الأكبر، قال ابن تيمية في الاستقامة: الزِّنَا من أكبر الْكَبَائِر بعد الْقَتْل؛ كَمَا دلّ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على ذَلِك عِنْدَمَا سُئِلَ أَي الذَّنب أعظم؟ قَالَ: أن تجْعَل لله ندا... الحَدِيث... إلى قَوْله: ثمَّ أَي؟ قَالَ: أن تُزَانِي بحليلة جَارك، ثمَّ قَرَأَ: وَالَّذين لَا يدعونَ مَعَ الله إِلَهًا آخر وَلَا يقتلُون النَّفس الَّتِي حرم الله إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يزنون {سورة الْفرْقَان: 68} ولذلك ينبغي أن يحمل الزنا هنا على الزنا الموجب للحد، ولا يصح أن يكون مجرد زنا العين..
وما ذكرت من الأحوال مما هو دون ما يوجب الحد يعتبر زنا ومعصية، لكنه ليس هو الزنا الأكبر الذي يوجب الحد والذي ورد فيه الوعيد بالعذاب الشديد في الآخرة، لكنه من جملة الذنوب التي يعزر عليها وتكفر بفعل الصالحات، كما روى البخاري ومسلم: أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأنزل الله: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ {هود:114} فقال الرجل: يا رسول الله؛ ألي هذا؟ قال: لجميع أمتي كلهم.
والله أعلم.