الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالكلام عن الأفضلية هنا إنما هو مقارنة مجردة بين حالين، بين احتساب أجر الرقية، وبين أخذ الأجرة عليها، بغض النظر عن ما بعد ذلك، ولا ريب أن الأول أفضل من حيث هو، ولا ينبغي أن يكون ذلك محل خلاف، وأما ما يترتب بعد ذلك من آثار وما يراعى فيه من اختلاف أحوال الناس، سواء الراقي أو المرقي، فهذا هو محل النظر، ولا إشكال في أن بعض الأحوال عند بعض الأشخاص قد يكون المفضول في حقهم فاضلا، لما يترتب عليه من أعمال أخرى، كإنسان لا يجد قوته ولا قوت من يعول، فرقى غيره فأعطاه شيئا فقبِله ليطعم نفسه ومن يعول، فهذا أفضل ممن ترك الأخذ فضيع نفسه ومن يعول، ومن ذلك أيضا الحال والمثال الذي ذكره السائل، فالمفاضلة فيه ليست بين الاحتساب وأخذ الأجرة! وإنما بين أجر الاحتساب وأجر الأعمال الصالحة التي ترتبت على تصرفه في المال المأخوذ، ولتقريب هذا المعنى نقول: تعليم القرآن مثلا، لا ريب في أن القيام به حسبةً أفضل من أخذ العطاء عليه ولو من بيت المال، قال ابن القاسم في الإحكام شرح أصول الأحكام بعد أن ذكر جواز أخذ العوض على الرقية: وأما تعليم القرآن والعلم بغير أجرة، فقال الشيخ وغيره: هو أفضل الأعمال وأحبها إلى الله. اهـ.
ومع ذلك، فلا يستنكر أن يقوم الآخذ للأجرة بعمل صالح فاضل لا يمكنه عمله إلا بمال الأجرة، كحج أو عمرة أو جهاد أو صدقة أو إغاثة ملهوف أو التفريج عن مكروب، ونحو ذلك، فيكون أجر ذلك أعظم له، والحقيقة أن المقارنة هنا ليست بين احتساب تعليم القرآن وبين أخذ الأجرة عليه، وإنما هي بين أجر المحتسب للتعليم، وأجر العامل لهذا العمل الصالح بأجرة التعليم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: قد يفتح على الإنسان في العمل المفضول ما لا يفتح عليه في العمل الفاضل، وقد ييسر عليه هذا دون هذا فيكون هذا أفضل في حقه لعجزه عن الأفضل، كالجائع إذا وجد الخبز المفضول متيسراً عليه، والفاضل متعسراً عليه، فإنه ينتفع بهذا الخبز المفضول، وشبعه واغتذاؤه به حينئذ أولى به. اهـ.
وقال أيضا: قد يكون على المفضول أقدر منه على الفاضل، ويحصل له أفضل مما يحصل من الفاضل، فالأفضل لهذا أن يطلب ما هو أنفع له وهو في حقه أفضل، ولا يطلب ما هو أفضل مطلقا إذا كان متعذرا في حقه أو متعسرا يفوته ما هو أفضل له وأنفع. اهـ.
وراجع في ذلك الفتوى رقم: 119753.
والله أعلم.