الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن التحلل من المظالم واجب شرعا وهو من شروط التوبة فيما يتعلق بحقوق العباد، والحقوق المادية يتم التحلل منها بردها إلى أصحابها أو طلب العفو منهم، لما في الحديث: على اليد ما أخذت حتى تؤديه. رواه أحمد.
وأما عن الغيبة: فقد اختلف العلماء في كيفية التحلل منها، وقد بينا أقوالهم في الفتاوى التالية أرقامها: 18180، 66515 127747، 171183.
ويشرع لك أن تكثر من الدعاء والاستغفار للمسلمين الذين اغتبتهم والثناء عليهم بما علمته فيهم من الخير ويكفي الدعاء لهم بصيغة الجمع ولا يشترط التعيين، ولو استسمحتهم بالهاتف أو استحللتهم استحلالا عاما فهو مجزئ، ولا يجب أن تتحلل عن كل مرة في الحقوق المعنوية، وأما الحقوق المادية فيجب تفصيلها وبيانها.
وأما التصدق عنهم: فإن كانت حقوقهم مادية ولم تتمكن من تذكرهم أو من لقائهم فيشرع أن تتصدق عنهم بما لهم عليك من الحق، ثم إن تمكنت من لقائهم بعد ذلك فأخبرهم، فإن رضوا بثواب الصدقة فذلك، وإلا فأعطهم حقوقهم ويكون ثواب الصدقة لك.
وأما الاعتداء باليد: فيجب الاستسماح إن تذكرت صاحب الحق أو أن تمكنه من نفسك ليقتص، قال صاحب مطهرة القلوب في شروط التوبة:
وشرطها استحلاله للآدمي من حقه الظاهر غير الحرمي
ونحوه إن تستطع تحلله منه ولا بد من أن تفصله.
وقال في الشرح: المحارم التي فيهن حق الآدمي خمسة: دينية كتكفير وقذف، وعرضية كغيبة، ومالية كغصب، فيجب أن تستحل مظلومك في الثلاث أي تطلبه أن يبرئك مما ظلمته به، ويجب أن تكذب نفسك عند من شهدت عنده عليه بزور، وهل شرطها لقاذف تكذيب نفسه قولان للشافعي ومالك.. وذكر بعضهم سقوط الإثم بالتوبة من غيبة لم تبلغه، وأما الحرمية: فيحرم فيها لإثارته الغيظ فلا تستحله إلا مبهماً، وأما البدنية: كضرب وقتل فيجب، وهل على القاتل تسليم نفسه؟ قولان لابن رشد، قال زروق: الثاني هو ظاهر الأحاديث... انتهى.
هذا، ولا يجب على صاحب الحق أن يسامحك؛ ولكن العفو والصفح أفضل ولو أصر على عدم السماح فلا حرج عليه، فقد أباح الله للمسلم السعي للحصول على حقوقه، والقصاص ممن ظلمه بحيث لا يتعدى ولا يجور، فقال الله تعالى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ {النحل:126}.
وقال الله تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا {الشورى:39ـ 40}.
ومع هذا فقد أمر الله بالصفح والعفو والتجاوز عن المسيء، ووعد على ذلك بجزيل الثواب وحسن المآب، فقال الله تعالى: وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ {النحل:126}.
وقال الله تعالى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ {الشورى 40ـ 43: }.
وقال الله تعالى: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا {النور:22}.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: من كظم غيظه وهو يقدر على أن ينتصر، دعاه الله تبارك وتعالى على رؤوس الخلائق حتى يخيره في حور العين أيتهن شاء. رواه الترمذي، وصححه الألباني.
وقال صلى الله عليه وسلم لعقبة: يا عقبة بن عامر: صل من قطعك، وأعط من حرمك، واعف عمن ظلمك. رواه أحمد وحسنه الأرناؤوط.
قال الإمام القرطبي في تفسير قوله تعالى: إِن تُبْدُواْ خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوَءٍ ـ فندب إلى العفو ورغب فيه، والعفو من صفة الله تعالى مع القدرة على الانتقام وقد تقدم في آل عمران فضل العافين عن الناس، ففي هذه الألفاظ اليسيرة معان كثيرة لمن تأمل, وقيل: إن عفوت فإن الله يعفو عنك، روى ابن المبارك قال: حدثني من سمع الحسن يقول: إذا جثت الأمم بين يدي رب العالمين يوم القيامة نودي ليقم من أجره على الله فلا يقوم إلا من عفا في الدنيا، يصدق هذا الحديث قوله تعالى: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ. انتهى.
ولا يكفي مجرد طلبك السماح إن لم يسامحك صاحب الحق؛ ولكن سماحه تحصل به البراءة من الذنب سواء كان صريحا أو ضمنا، وأما لو سكت فلا يكون ذلك مسامحة، وإذا عفا العبد وأسقط حقه عن المسيء إليه لم يكن له أن يأخذ من حسناته يوم القيامة، لكن ما يناله من الله على عفوه أعظم من ذلك وأوفى، كما قدمنا بالفتوى رقم: 24753.
والله أعلم.