الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا يجوز أن يُضعَّف الحديث من أجل إشكاله على بعض الأفهام، وقد سبق لنا الجواب عن ما يشكل في فهم هذا الحديث في الفتوى رقم: 228988.
ونضيف هنا لمزيد الإيضاح كلام الشيخ ابن عثيمين حيث قال: يجوز أن نمنع المباح خوفًا من الوقوع في المفاسد، كما منع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الرجل إذا طلق زوجته ثلاثًا في مجلس واحد، منعه من مراجعتها، مع أنها كانت تراجع في عهد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأبي بكر، وسنتين من خلافة عمر، لكن لما تتابع الناس، وتهاونوا في الطلاق الثلاث، منع عمر - رضي الله عنه - من مراجعة الرجل زوجته، مع أنه كان أصلًا مباحًا له ذلك؛ ولهذا أقول: ينبغي لأهل العلم أن يكونوا علماء مربين، لا علماء مخبرين فقط، فتجد بعض الناس يعتمد على قول الفقهاء في مسألة ما دون أن ينظر في عواقبها، وما ينتج عنها من مفاسد، وهذا لا ينبغي، بل ينبغي للإنسان أن ينظر ماذا يترتب على هذا القول، أليس النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال لمعاذ: "أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: حق الله على العباد أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئًا، وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئًا، فقال: يا رسول الله، أفلا أبشر الناس؟ قل :لا تبشرهم فيتكلوا" فمنعه من نشر هذا العلم العظيم المتعلق بالعقيدة خوفًا من أن يتكل الناس ولا يعملوا. اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: فكأن قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: "أخاف أن يتكلوا" كان بعد قصة أبي هريرة، فكان النهي للمصلحة، لا للتحريم، فلذلك أخبر به معاذ لعموم الآية بالتبليغ. اهـ.
وجاء في الموسوعة الفقهية في بيان أن "اقتضاء المصلحة" سبب من أسباب الرجوع في الحكم والفتوى: قال العلماء: لا خلاف أن النبي صلى الله عليه وسلم له أن يجتهد في أمور الدنيا، ويرجع إلى رأي غيره في ذلك، كما فعل في تلقيح النخل، والنزول ببدر، ومصالحة أهل الأحزاب، وكذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم حين أرسل أبا هريرة - رضي الله عنه - بنعليه، وقال له: من لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه فبشره بالجنة، فقال له عمر - رضي الله عنه -: لا تفعل فإني أخشى أن يتكل الناس عليها، فخلهم يعملون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فخلهم. اهـ.
وقال ابن الجوزي في التبصرة: كان عمر - رضي الله عنه - جدًّا كله، وكان يقدم على صاحب الشريعة وينبسط، فيحتمله؛ لعلمه بصحة قصده، فمن ذلك: أنه أراد أن يصلي على ابن أبيٍّ، فوقف في صدره، وقال: أتصلي عليه؟! وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا لأبي هريرة: اذهب بنعلي هاتين، فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا به قلبه، فبشره بالجنة، فذهب فلقيه عمر، فأخبره الخبر، فضرب بين ثدييه حتى خر، وقال: ارجع فرجع، فقال: يا رسول الله إني أخشى أن يتكل الناس عليها، فخلهم يعملون. قال: فخلهم. اهـ.
والله أعلم.