الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن السائل لم يذكر لنا الفتاوى التي تشكل عليه، وأما عن النية واحتساب الأجر: فينبغي أن يعلم الأخ السائل أن النية محلها القلب، ولا يحتاج استحضارها إلى كبير عناء، بل هي مجرد قصد الإنسان للشيء وعلمه به، وكل فعل يفعله الإنسان العاقل لا بد أن يكون له قصد بذلك الفعل، ولذلك قال بعض العلماء لو كلف الإنسان أن يفعل شيئاً بلا قصد أي بلا نية لكان تكليفاً بما لا يطاق، قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ في مجموع الفتاوى: فإن النية تتبع العلم فمن علم ما يريد فعله نواه بغير اختياره، وأما إذا لم يعلم الشيء فيمتنع أن يقصده..... انتهى.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضا: ومعلوم في العادة أن من كبر في الصلاة لا بد أن يقصد الصلاة، وإذا علم أنه يصلي الظهر نوى الظهر، فمتى علم ما يريد فعله نواه ضرورة. انتهى.
وكما أن النية أمرها سهل، فالاحتساب كذلك ليس من الأمور الصعبة، فأي عمل عمله العبد مريدا لامتثال أمر الله تعالى فهو يعتبر محتسبا، فقد جاء في الحديث: لا أجر لمن لا حسبة له. رواه البيهقي، وحسنه الألباني.
قال المناوي في شرح الحديث: أي لا أجر لمن لم يقصد بعمله امتثال أمره تعالى والتقرب به إليه. انتهـى.
وإذا عمل الإنسان ما فيه إحسان إلى الخلق أو دعاء لهم فهو مأجور على كل، ولكن ابتغاء رضوان الله تعالى في ذلك العمل ينال به عظيم الأجر، فقد جاء في جامع العلوم والحكم لابن رجب: وقوله: لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا {النساء:114} فنفى الخير عن كثير مما يتناجى به الناس إلا في الأمر بالمعروف، وخص من أفراده الصدقة والإصلاح بين الناس، لعموم نفعها فدل ذلك على أن التناجي بذلك خير، وأما الثواب عليه من الله، فخصه بمن فعله ابتغاء مرضات الله، وإنما جعل الأمر بالمعروف من الصدقة والإصلاح بين الناس وغيرهما خيرا، وإن لم يبتغ به وجه الله، لما يترتب على ذلك من النفع المتعدي، فيحصل به للناس إحسان وخير، وأما بالنسبة إلى الآمر، فإن قصد به وجه الله وابتغاء مرضاته، كان خيرا له وأثيب عليه، وإن لم يقصد ذلك لم يكن خيرا له، ولا ثواب له عليه، وهذا بخلاف من صام وصلى وذكر الله يقصد بذلك عرض الدنيا، فإنه لا خير له فيه بالكلية، لأنه لا نفع في ذلك لصاحبه، لما يترتب عليه من الإثم فيه، ولا لغيره لأنه لا يتعدى نفعه إلى أحد، اللهم إلا أن يحصل لأحد به اقتداء في ذلك... وروى ابن أبي الدنيا بإسناد منقطع، عن عمر قال: لا عمل لمن لا نية له، ولا أجر لمن لا حسبة له ـ يعني: لا أجر لمن لم يحتسب ثواب عمله عند الله عز وجل. اهـ.
ومثل هذا ما لو أن شخصا اشتغل بالذكرمع حضور القلب فأجره عظيم، ولكنه ينال شيئا من الأجر لا محالة لو ذكر وهو غافل لشغله جارحة اللسان بالطاعة، قال الغزالي ـ رحمه الله ـ في الإحياء: الاستغفار باللسان أيضاً حسنة، إذ حركة اللسان بها عن غفلة خير من حركة اللسان في تلك الساعة بغيبة مسلم أو فضول كلام، بل هو خير من السكوت عنه، فيظهر فضله بالإضافة إلى السكوت عنه، وإنما يكون نقصاناً بالإضافة إلى عمل القلب. انتهى
وقال أيضاً: فإن تعود الجوارح للخير حتى يصير لها ذلك كالطبع يدفع جملة من المعاصي. انتهى.
وقال ابن حجر في الفتح: أفاد العز بن عبد السلام أن النية إنما تشترط في العبادة التي لا تتميز بنفسها، وأما ما يتميز بنفسه فإنه ينصرف بصورته إلى ما وضع له، كالأذكار والأدعية والتلاوة، لأنها لا تتردد بين العبادة والعادة، ولا يخفى أن ذلك إنما هو بالنظر إلى أصل الوضع، أما ما حدث فيه عرف كالتسبيح للتعجب فلا، ومع ذلك فلو قصد بالذكر القربة إلى الله تعالى لكان أكثر ثوابا، ومن ثم قال الغزالي: حركة اللسان بالذكر مع الغفلة عنه تحصل الثواب، لأنه خير من حركة اللسان بالغيبة، بل هو خير من السكوت مطلقا، أي المجرد عن التفكر، قال: وإنما هو ناقص بالنسبة إلى عمل القلب ـ ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم: في بضع أحدكم صدقة ـ ثم قال في الجواب عن قولهم: أيأتي أحدنا شهوته ويؤجر؟ أرأيت لو وضعها في حرام. اهـ.
والله أعلم.