الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الأصل في الحكم بصحة بعض العقود، مع إبطال الشروط فيها، هو قصة بريرة؛ فقد أخرج البخاري ومسلم - واللفظ له - عن عائشة، قالت: دخلت علي بريرة، فقالت: إن أهلي كاتبوني على تسع أواق، في تسع سنين، في كل سنة أوقية، فأعينيني، فقلت لها: إن شاء أهلك أن أعدها لهم عدة واحدة، وأعتقك، ويكون الولاء لي، فعلت، فذكرت ذلك لأهلها، فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم، فأتتني، فذكرت ذلك قالت: فانتهرتها، فقالت: لا ها الله إذن، قالت: فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألني، فأخبرته، فقال: «اشتريها وأعتقيها، واشترطي لهم الولاء؛ فإن الولاء لمن أعتق»، ففعلت، قالت: ثم خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية، فحمد الله، وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: «أما بعد، فما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، ما كان من شرط ليس في كتاب الله عز وجل فهو باطل، وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق، ما بال رجال منكم يقول أحدهم أعتق فلانًا والولاء لي، إنما الولاء لمن أعتق». فالنبي صلى الله عليه وسلم قد أبطل الشرط المخالف للشرع - وهو جعل ولاء الأمة للبائع - وصحح البيع ولم يبطله، فقال لعائشة: اشتريها وأعتقيها، واشترطي لهم الولاء.
والصورة التي ورد فيها النص - وهي البيع مع اشتراط الولاء للبائع - محل وفاق بين العلماء أن البيع صحيح، والشرط باطل.
قال ابن بطال: ومما أجاز فيه مالك البيع، وأبطل الشرط، وذلك شراء العبد على أن يكون الولاء للبائع، وهذا البيع أجمعت الأمة على جوازه، وإبطال الشرط فيه لمخالفته السنة في أن الولاء لمن أعتق، وأن النبي - عليه السلام - أجاز هذا البيع، وأبطل الشرط .اهـ.
وعمم هذا الحكم بعض الفقهاء، فرأوا أن كل شرط ينافي مقتضى البيع، فإن الشرط يبطل، والبيع صحيح.
جاء في كشاف القناع - من كتب الحنابلة -: النوع (الثاني) من الشروط الفاسدة: (شرط في العقد ما ينافي مقتضاه نحو أن يشترط أن لا خسارة عليه أو) شرط أنه (متى نفق المبيع وإلا رده، أو) يشترط البائع على المشتري (أن لا يبيع) المبيع (ولا يهبه، ولا يعتقه) أي: لا يفعل واحدًا من هذه، فالواو بمعنى أو (أو) شرط البائع (إن أعتق) المشتري المبيع (فالولاء له) أي للبائع (أو يشترط) البائع على المشتري (أن يفعل ذلك، أو وقف المبيع فهذا) الشرط (لا يبطل البيع) لحديث عائشة قالت: «جاءتني بريرة، فقالت: كاتبت أهلي على تسع أواق .. وقوله - صلى الله عليه وسلم - " واشترطي لهم الولاء " لا يصح حمله على: واشترطي عليهم الولاء، بدليل أمرها به، ولا يأمرها بفاسد؛ لأن الولاء لها بإعتاقها، فلا حاجة إلى اشتراطه؛ ولأنهم أبوا البيع إلا أن تشترط لهم الولاء، فكيف يأمرها بما علم أنهم لا يقبلونه؟ وأما أمرها بذلك: فليس بأمر على الحقيقة، وإنما هو صيغة أمر بمعنى التسوية، كقوله تعالى: {فاصبروا أو لا تصبروا} [الطور: 16] التقدير: اشترطي لهم الولاء، أو لا تشترطي؛ ولهذا قال عقبه: «فإنما الولاء لمن أعتق» . (والشرط باطل في نفسه) لما تقدم (إلا العتق فيصح) أن يشترطه البائع على المشتري لحديث بريرة. اهـ.
ورأى بعض الفقهاء قصر الحكم بصحة البيع وبطلان الشرط على الشروط التي لا يقتضيها العقد، ولا تنافيه.
جاء في الأشباه والنظائر للسيوطي: الشروط في البيع أربعة أقسام: الأول: يبطل البيع والشروط، كالشروط المنافية لمقتضى العقد، كأن لا يتسلمه، أو لا ينتفع به.
الثاني: يصح البيع دون الشرط، كشرط ما لا ينافيه، ولا يقتضيه، ولا غرض فيه، وبيع غير الحيوان بشرط براءته من العيوب.
الثالث: يصح البيع والشرط، كشرط خيار، وأجل، ورهن، وكفيل، وإشهاد، وعتق، ووصف مقصود، والبراءة من العيوب في الحيوان.
الرابع: شرط ذكره شرط، كبيع الثمار المنتفع بها قبل الصلاح، يشترط في صحة البيع شرط القطع، ولو بيعت من مالك الأصل، لا يجب الوفاء به في هذه الصورة، وليس لنا شرط يجب ذكره لتصحيح العقد، ولا يجب الوفاء به غيره. اهـ.
والله أعلم.