الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالوسوسة لا تتسلط على العالم؛ لعلمه أنها من كيد الشيطان، وحيله التي يريد بها إبعاد العبد عن العبادة، وصده عن طرق الخير؛ ولأنه يعلم سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وسيرة أصحابه، وما كانوا عليه من الإعراض عن الوساوس، وعدم التنطع في الدين، ولعلمه بيسر الشريعة، ورفعها الحرج عن المكلفين، والاسترسال مع الوساوس من أعظم الحرج، فالعالم يستحضر هذا كله وغيره، فينفعه علمه في إبعاد الوساوس وطردها. وأما العابد الذي يعبد الله على جهل، فإنه يتسلط عليه الشيطان بسبب قلة العلم.
قال الفقيه ابن حجر المكي: وفي رسالة القشيري عن أحمد بن عطاء قال: ضاق صدري ليلة لكثرة ما صببت من الماء، ولم يسكن قلبي. فقلت: يا رب عفوك، فسمعت هاتفا يقول: العفو في العلم؛ فزال ذلك عني. اهـ.
وبه تعلم صحة ما قدمته أن الوسوسة لا تسلط إلا على من استحكم عليه الجهل، وأما من كان على حقيقة العلم، والعقل فإنه لا يخرج عن الاتباع، ولا يميل إلى الابتداع. وأقبح المبتدعين الموسوسون؛ ومن ثم قال مالك - رحمه الله - عن شيخه ربيعة - إمام أهل زمنه -: كان ربيعة أسرع الناس في أمرين: في الاستبراء، والوضوء، حتى لو كان غيره - قلت: ما فعل. انتهى.
فالوسوسة لا تتسلط على كل عابد، وإنما يبتلى بها من قل نصيبه من العلم من العباد، كما قال أبو حامد في الإحياء: الوسوسة محض الجهل.
ولما كان الصحابة- رضوان الله عليهم- أعلم الناس، لم تكن فيهم الوسوسة مع شدة اجتهادهم في العبادة، وحرصهم عليها، وإنما عصمهم منها ما أكرمهم الله به من العلم.
يقول ابن القيم رحمه الله: ثم ليعلم أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان فيهم موسوس. ولو كان الوسوسة فضيلة لما ادخرها الله عن رسوله وصحابته، وهم خير الخلق وأفضلهم، ولو أدرك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الموسوسين لمقتهم، ولو أدركهم عمر- رضى الله تعالى عنه- لضربهم وأدبهم، ولو أدركهم الصحابة لبدعوهم. انتهى.
فعلى كل مسلم أن يجانب الوساوس، وأن يعتصم في مدافعتها بالعلم النافع؛ فإنه أعظم ما يعصم منها بإذن الله.
والله أعلم.