الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد بينا بالفتوى رقم: 52756 أن خطاب الرجال يشمل النساء؛ فالأصل شمول ذلك للنساء، وقد أخبرنا الله أن الملك كلم مريم فقال: فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا {مريم: 17-19}.
وأما الرواية المشار إليها: "رجال يكلمون..." فلا تدل على ذلك؛ فقد قال تعالى: وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46). سورة الأعراف.
قال ابن عاشور: وليس تخصيص الرجال بالذكر بمقتض أن ليس في أهل الأعراف نساء، ولا اختصاص هؤلاء الرجال المتحدث عنهم بذلك المكان دون سواهم من الرجال، ولكن هؤلاء رجال يقع لهم هذا الخبر، فذكروا هنا للاعتبار على وجه المصادفة، لا لقصد تقسيم أهل الآخرة وأمكنتهم .انتهى.
ولا يصح القياس على النبوة، والرسالة؛ فالنبوة مختلف فيها للنساء، وراجعي الفتوى رقم: 167557.
ثم إن النبوة، والرسالة أعلى من مقام الإلهام، فلا يصح القياس عليه، ويدل على هذا أن من النساء صديقات؛ قال تعالى: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ..سورة المائدة (75).
وفي مسند الإمام أحمد، عن مسروق، قال: حدثتني الصديقة بنت الصديق، حبيبة حبيب الله، المبرأة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان " يصلي ركعتين بعد العصر " فلم أكذبها" صحح إسناده، محققو المسند.
مع أن مقام الصديقية أرفع من مقام التحديث.
قال ابن القيم في مدارج السالكين: قَالَ شَيْخُنَا (ابن تيمية): وَالصِّدِّيقُ أَكْمَلُ مِنَ الْمُحَدَّثِ، لِأَنَّهُ اسْتَغْنَى بِكَمَالِ صَدِّيقِيَّتِهِ وَمُتَابَعَتِهِ عَنِ التَّحْدِيثِ وَالْإِلْهَامِ وَالْكَشْفِ، فَإِنَّهُ قَدْ سَلَّمَ قَلْبَهُ كُلَّهُ، وَسِرَّهُ، وَظَاهِرَهُ وَبَاطِنَهُ لِلرَّسُولِ، فَاسْتَغْنَى بِهِ عَمَّا مِنْهُ. قَالَ: وَكَانَ هَذَا الْمُحَدَّثُ يَعْرِضُ مَا يُحَدِّثُ بِهِ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، فَإِنْ وَافَقَهُ قَبِلَهُ، وَإِلَّا رَدَّهُ، فَعُلِمَ أَنَّ مَرْتَبَةَ الصِّدِّيقِيَّةِ فَوْقَ مَرْتَبَةِ التَّحْدِيثِ. اهـ.
وقد يدخل في ذلك (الإلهام) موقف أم سلمة -رضي الله عنها- في الحديبية.
وقد ذكرها البخاري في صحيحه وفيها: فلما فرغ من قضية الكتاب، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لأصحابه: ( قوموا فانحروا، ثم احلقوا ) . قال فو الله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد، دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس. فقالت أم سلمة: يا نبي الله أتحب ذلك، اخرج لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك. فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك، نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه. فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل غما.
وقد يكون هذا من رجاحة عقلها كما قال ابن حجر-رحمه الله-.
وراجعي للفائدة الفتوى رقم: 106382.
والله أعلم.