الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فطالب العلم إن كان متعففا عن الأخذ، أو أخذ بغير سؤال، لا يقال إنه صاحب اليد السفلى، وإن كانت يد المعطي أعلى من يده، وأما إن كان طالب العلم يسأل الناس، فيده يد سفلى، وهذا قول الجمهور، كما حكاه عنهم الحافظ ابن حجر في فتح الباري عند شرحه لحديث: اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى، فَاليَدُ العُلْيَا: هِيَ المُنْفِقَةُ، وَالسُّفْلَى: هِيَ السَّائِلَةُ.
وقد لخص -رحمه الله- أنواع الأيدي العليا منها، والسفلى بعد ذكر اختلاف العلماء في ذلك، فقال: وَمُحَصَّلُ مَا فِي الْآثَارِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنْ أَعْلَى الْأَيْدِي الْمُنْفِقَةُ، ثُمَّ الْمُتَعَفِّفَةُ عَنِ الْأخِذِ، ثُمَّ الْآخِذَةُ بِغَيْرِ سُؤَالٍ، وَأَسْفَلُ الْأَيْدِي السَّائِلَةُ، وَالْمَانِعَةُ. انتهى.
وخير ما يرد على من يلمز طلبة العلم الذين يأخذون نفقة تسد حاجتهم من غير مسألة، ولا استشراف، أن يقال لهم: إن تقوى الله هي الميزان الذي يعرف به أكرم الناس عند الله، فلا يلزم أن يكون صاحب اليد العليا أفضل من صاحب اليد السفلى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- في منهاج السنة: وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُ مَنْ يَأْخُذُ الصَّدَقَةَ أَفْضَلَ مِنْ بَعْضِ مَنْ يُعْطِيهَا، وَقَدْ يَكُونُ فِيمَنْ يُعْطِيهَا أَفْضَلُ مِنْ بَعْضِ مَنْ يَأْخُذُهَا، وَإِنْ كَانَتِ الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرًا مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى. فَالْفَضِيلَةُ بِنَوْعٍ لَا تَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهَا أَفْضَلَ مُطْلَقًا. وَلِهَذَا كَانَ فِي الْأَغْنِيَاءِ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ جُمْهُورِ الْفُقَرَاءِ، وَفِي الْفُقَرَاءِ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ جُمْهُورِ الْأَغْنِيَاءِ; فَإِبْرَاهِيمُ، وَدَاوُدُ، وَسُلَيْمَانُ، وَيُوسُفُ وَأَمْثَالُهُمْ أَفْضَلُ مِنْ أَكْثَرِ الْفُقَرَاءِ، وَيَحْيَى، وَعِيسَى وَنَحْوُهُمَا أَفْضَلُ مِنْ أَكْثَرِ الْأَغْنِيَاءِ. فَالِاعْتِبَارُ الْعَامُّ هُوَ التَّقْوَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} . فَكُلُّ مَنْ كَانَ أَتْقَى كَانَ أَفْضَلَ مُطْلَقًا، وَإِذَا تَسَاوَى اثْنَانِ فِي التَّقْوَى اسْتَوَيَا فِي الْفَضْلِ، سَوَاءٌ كَانَا - أَوْ أَحَدُهُمَا - غَنِيَّيْنِ أَوْ فَقِيرَيْنِ، أَوْ أَحَدُهُمَا غَنِيًّا وَالْآخَرُ فَقِيرًا. انتهى.
ونختم بفائدة ذكرها الخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، يبين فيها الطريقة المثلى لطالب العلم التي ينبغي أن يسلكها مع طلبه للرزق، حيث قال رحمه الله: إِذَا كَانَ لِلطَّالِبِ عِيَالٌ لَا كَاسِبَ لَهُمْ غَيْرُهُ، فَيُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَنْقَطِعَ عَنْ مَعِيشَتِهِ وَيَشْتَغِلَ بِالْحَدِيثِ عَنِ الِاحْتِرَافِ لَهُمْ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ». قَالَ الثَّوْرِيُّ: "عَلَيْكَ بِعَمَلِ الْأَبْطَالِ: الْكَسْبُ مِنَ الْحَلَالِ، وَالْإِنْفَاقُ عَلَى الْعِيَالِ". وعَنْ عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ سُلَيْمَانَ الرَّازِيِّ، قَالَ: "كُنَّا عِنْدَ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، فَكَانَ إِذَا أَتَاهُ الرَّجُلُ يَطْلُبُ الْعِلْمَ سَأَلَهُ: هَلْ لَكَ وَجْهُ مَعِيشَةٍ؟ فَإِنْ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ فِي كِفَايَةٍ، أَمَرَهُ بِطَلَبِ الْعِلْمِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِفَايَةٍ، أَمَرَهُ بِطَلَبِ الْمَعَاشِ".
وقال رحمه الله: إِذَا كَانَ الطَّالِبُ لِلْحَدِيثِ عَزَبًا فَآثَرَ الطَّلَبَ عَلَى الِاحْتِرَافِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعَوِّضُهُ، وَيَأْتِيهِ بِالرِّزْقِ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ... وَإِنْ جَعَلَ مِنْ وَقْتِهِ جُزْءًا يَسِيرًا لِلِاحْتِرَافِ كَالتَّوْرِيقِ وَمَا أَشْبَهَهُ، كَانَ أَفْضَلَ ... وَلَنْ يَصْبِرَ عَلَى الْحَالِ الصَّعْبَةِ إِلَّا مَنْ آثَرَ الْعِلْمَ عَلَى مَا عَدَاهُ، وَرَضِيَ بِهِ عِوَضًا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سِوَاهُ. انتهى بتصرف.
وللفائدة يرجى مراجعة هاتين الفتويين: 168269، 77968.
والله أعلم.