الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد :
فاعلم أخي السائل أولا أن الأصل في أمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أنه للوجوب , وأن الأصل في نهي الله تعالى ونهي رسوله صلى الله عليه وسلم أنه للتحريم في قول جمهور أهل العلم؛ كما بيناه في الفتوى رقم: 238396 , وهذا لا يعني أن كل أمر وكل نهي يبقى كذلك؛ بل ينتقل الأمر للاستحباب - أو للإباحة - إذا وجد دليل أو قرينة على أنه أريد به ذلك , وينتقل النهي للكراهة إذا وجد دليل أو قرينة تدل على أنه أريد به الكراهة .
إذا تبين لك هذا، فإنك إن وجدت أمرا حمله أهل العلم على الوجوب وآخر حملوه على الاستحباب فلا تعتبر هذا تناقضا , بل اعتبر أن الأول باق على الأصل , والثاني وُجِدَ دليل أو قرينة نقلته من الوجوب إلى الاستحباب.
وما ذكرته في السؤال خير مثال على ما قررناه , فإن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعفاء اللحية وإرخائها بقي على الأصل – الوجوب – لعدم وجود ما يصرفه إلى الاستحباب , فيكون إعفاؤها واجبا , وحلقها محرما؛ لأنه ترك للأمر الواجب , بينما الأمر بالسحور جاء ما يصرفه من الوجوب إلى الاستحباب، وهو أنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم واصل الصيام هو وأصحابه لمدة يومين , لم يفطروا ولم يتسحروا , كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة وفيه ( ... وَاصَلَ بِهِمْ يَوْمًا ثُمَّ يَوْمًا ثُمَّ رَأَوْا الْهِلَالَ ... ) , قال الحافظ في الفتح : فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ السُّحُورَ لَيْسَ بِحَتْمٍ ، إِذْ لَوْ كَانَ حَتْمًا مَا وَاصَلَ بِهِمْ فَإِنَّ الْوِصَالَ يَسْتَلْزِمُ تَرْكَ السُّحُورِ سَوَاءٌ قُلْنَا الْوِصَالُ حَرَامٌ أَوْ لَا . اهــ .
كما أن هناك إجماعا وقرينة يدلان على أن الأمر بالسحور إنما هو للاستحباب وليس للوجوب , قال بدر الدين العيني في شرح البخاري : فإن قلت قوله (تسحروا) أمر ومقتضاه الوجوب قلت: أجيب بأنه أمر ندب بالإجماع، وقال القاضي عياض: أجمع الفقهاء على أن السحور مندوب إليه ليس بواجب، والأوجه أن يقال: إن الأمر الذي مقتضاه الوجوب هو المجرد عن القرائن، وههنا قرينة تدفع الوجوب، وهو أن السحور إنما هو أكل للشهوة وحفظ القوة وهو منفعة لنا فلو قلنا بالوجوب ينقلب علينا . اهــ .
والله تعالى أعلم.