الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقول السائل: المسلم الذي لم يدخل الإيمان في قلبه... يحتمل أنه يقصد من يظهر الإيمان وهو مبطن للكفر، فهذا هو المنافق ـ والعياذ بالله ـ وحاله يوم القيامة معروفة، قال الله تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا {النساء:145}.
كما يحتمل المسلم الذي هو ضعيف الإيمان، فهذا يكون جزاؤه يوم القيامة بحسب ما عنده من الإيمان والأعمال الصالحة، وقد يتفضل الله عليه بالمغفرة، وقد جاء تفصيل هذه المعاني عن الشيخ ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ عند تفسيره لسورة الحجرات، حيث قال: قالت الأَعراب آمنا ـ الأعراب اسم جمع لأعرابي، والأعرابي هو ساكن البادية كالبدوي تماماً، فالأعراب افتخروا، فقالوا: آمنا، آمنا، افتخروا بإيمانهم، فقال الله عز وجل: قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ـ قيل: إن هؤلاء من المنافقين، لقول الله تعالى: وممن حولكم من الأَعراب منافقون ـ والمنافق مسلم، ولكنه ليس بمؤمن، لأنه مستثنى في الظاهر، إذ إن حال المنافق أنه كالمسلمين، ولهذا لم يقتلهم النبي عليه الصلاة والسلام، مع علمه بنفاقهم مع أنهم مسلمون ظاهراً لا يخالفون، وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا، وقيل: إنهم أعراب غير منافقين، لكنهم ضعفاء الإيمان، يمشون مع الناس في ظاهر الشرع، لكن قلوبهم ضعيفة، وإيمانهم ضعيف، وعلى القول الأول يكون قوله: ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ـ أنه لم يدخل أصلاً، وعلى الثاني: أي لما يدخل الإيمان الدخول الكامل المطلق، ففيهم إيمان لكن لم يصل الإيمان في قلوبهم على وجه الكمال، والقاعدة عندنا في التفسير أن الآية إذا احتملت معنيين، فإنها تحمل عليهما جميعاً إذا لم يتنافيا، فإن تنافيا طلب المرجح، فالأعراب الغالب عليهم أنهم لا يعرفون حدود ما أنزل الله على رسوله، فيقولون آمنا، فقال الله تعالى يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم: قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم... وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام عن الخوارج أنهم يقرءون القرآن، وأنهم يصلون، وأن الواحد من الصحابة يحقر صلاته عند صلاتهم، وقراءته عند قراءتهم، ومع ذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: إنهم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم ـ نسأل الله العافية، وأنهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، وهذا يدل على أن الإسلام يستطيعه كل إنسان يمكن أن يصلي ويسجد ويقرأ ويصوم ويتصدق وقلبه خالٍ من الإيمان، ولهذا قال: قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ـ وهنا التعبير يقول: لما يدخل ـ ولم يقل: ولم يدخل ـ قال العلماء: إذا أتت لما بدل لم كان ذلك دليلاً على قرب وقوع ما دخلت عليه، فمثلاً إذا قلت: فلان لمّا يدخلها ـ أي أنه قريب منها، ومنه قوله تعالى: بل هم في شك من ذكرى بل لما يذوقوا عذاب ـ أي لم يذوقوه، ولكن قريب منه، وهنا قال: لما يدخل ـ أي لم يدخل الإيمان في قلوبهم، ولكنه قريب من الدخول: وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعملكم شيئاً ـ إن أطعتم الله ورسوله بالقيام بأمره واجتناب نهيه فإنه لن ينقصكم من أعمالكم شيئاً، بل سيوفرها لكم كاملة، كما قال الله تبارك وتعالى: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون ـ فكل إنسان يجزى على عمله إن خيراً فخير، وإن شرًّا فشر، لكن رحمة الله تعالى سبقت غضبه: فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره ـ وقد يعاقب، وقد يعفو الله عنه، فالسيئات يمكن أن تمحى، والحسنات لا يمكن أن تنقص، ولهذا قال: لا يلتكم من أعملكم شيئاً ـ أي لا ينقصكم: إن الله غفور رحيم ـ ختم الآية بالمغفرة والرحمة، إشارة إلى أن هؤلاء الذين قالوا إنهم آمنوا قريبون من المغفرة والرحمة، لم يدخل الإيمان في قلوبهم، ولكنه قريب من دخوله. اهـ مع حذف يسير.
والله أعلم.