الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فأما النقطة الأولى، فجوابها يتضح بمعرفة أحكام الفيء والغنيمة، وكيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتصرف في الخمس منهما، ومن الذي يقوم بهذا الأمر من بعده، قال ابن القيم في زاد المعاد: اختلف الفقهاء في الفيء، هل كان ملكًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يتصرف فيه كيف يشاء، أو لم يكن ملكًا له؟ على قولين في مذهب أحمد، وغيره، والذي تدل عليه سنته وهديه أنه كان يتصرف فيه بالأمر، فيضعه حيث أمره الله، ويقسمه على من أمر بقسمته عليهم، فلم يكن يتصرف فيه تصرف المالك بشهوته وإرادته، يعطي من أحب، ويمنع من أحب، وإنما كان يتصرف فيه تصرف العبد المأمور ينفذ ما أمره به سيده ومولاه، فيعطي من أمر بإعطائه، ويمنع من أمر بمنعه، وقد صرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا، فقال: «والله إني لا أعطي أحدًا ولا أمنعه، إنما أنا قاسم، أضع حيث أمرت» فكان عطاؤه، ومنعه، وقسمه بمجرد الأمر، فإن الله سبحانه خيره بين أن يكون عبدًا رسولًا، وبين أن يكون ملكًا رسولًا، فاختار أن يكون عبدًا رسولًا، والفرق بينهما أن العبد الرسول لا يتصرف إلا بأمر سيده ومرسله، والملك الرسول له أن يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، كما قال تعالى للملك الرسول سليمان: {هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب} [ص: 39] أي: أعط من شئت، وامنع من شئت، لا نحاسبك، وهذه المرتبة هي التي عرضت على نبينا صلى الله عليه وسلم فرغب عنها إلى ما هو أعلى منها، وهي مرتبة العبودية المحضة التي تصرف صاحبها فيها مقصور على أمر السيد في كل دقيق وجليل، والمقصود: أن تصرفه في الفيء بهذه المثابة، فهو ملك يخالف حكم غيره من المالكين؛ ولهذا كان ينفق مما أفاء الله عليه مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب على نفسه وأهله نفقة سنتهم، ويجعل الباقي في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله عز وجل، وهذا النوع من الأموال هو السهم الذي وقع بعده فيه من النزاع ما وقع إلى اليوم، فأما الزكوات، والغنائم، وقسمة المواريث فإنها معينة لأهلها، لا يشركهم غيرهم فيها، فلم يشكل على ولاة الأمر بعده من أمرها ما أشكل عليهم من الفيء، ولم يقع فيها من النزاع ما وقع فيه، ولولا إشكال أمره عليهم لما طلبت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ميراثها من تركته، وظنت أنه يورث عنه ما كان ملكًا له، كسائر المالكين، وخفي عليها - رضي الله عنها - حقيقة الملك الذي ليس مما يورث عنه، بل هو صدقة بعده، ولما علم ذلك خليفته الراشد البار الصديق، ومن بعده من الخلفاء الراشدين لم يجعلوا ما خلفه من الفيء ميراثًا يقسم بين ورثته، بل دفعوه إلى علي، والعباس، يعملان فيه عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى تنازعا فيه، وترافعا إلى أبي بكر الصديق، وعمر، ولم يقسم أحد منهما ذلك ميراثًا، ولا مكنا منه عباسًا وعليًا، وقد قال الله تعالى: {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب * للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانًا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون * والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم} إلى قوله: {والذين جاءوا من بعدهم} إلى آخر الآية [الحشر: 7 - 10] فأخبر سبحانه أن ما أفاء على رسوله بجملته لمن ذكر في هذه الآيات، ولم يخص منه خمسه بالمذكورين، بل عمم وأطلق واستوعب، ويصرف على المصارف الخاصة، وهم أهل الخمس، ثم على المصارف العامة، وهم المهاجرون، والأنصار، وأتباعهم إلى يوم الدين، فالذي عمل به هو وخلفاؤه الراشدون هو المراد من هذه الآيات، ولذلك قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فيما رواه أحمد - رحمه الله - وغيره عنه: "ما أحد أحق بهذا المال من أحد، وما أنا أحق به من أحد، والله ما من المسلمين أحد إلا وله في هذا المال نصيب إلا عبد مملوك، ولكنا على منازلنا من كتاب الله، وقسمنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالرجل وبلاؤه في الإسلام، والرجل وقدمه في الإسلام، والرجل وغناؤه في الإسلام، والرجل وحاجته، ووالله لئن بقيت لهم ليأتين الراعي بجبل صنعاء حظه من هذا المال، وهو يرعى مكانه"، فهؤلاء المسمون في آية الفيء هم المسمون في آية الخمس، ولم يدخل المهاجرون، والأنصار، وأتباعهم في آية الخمس؛ لأنهم المستحقون لجملة الفيء، وأهل الخمس لهم استحقاقان: استحقاق خاص من الخمس، واستحقاق عام من جملة الفيء، فإنهم داخلون في النصيبين ... اهـ.
فقسم الفيء إنما يقوم عليه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الخليفة من بعده، فيعطي ذوي الحقوق منه حقوقهم، فإذا كان الفيء أرضًا فلا يملكها أحد، بل يعطى أهلها نصيبهم من ثمرتها، ومن جملتهم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وذووا القربي، فعن أبي الطفيل قال: جاءت فاطمة - رضي الله عنها - إلى أبي بكر - رضي الله عنه - تطلب ميراثها من النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله عز وجل إذا أطعم نبيًا طعمة فهي للذي يقوم من بعده. رواه أبو داود، وحسنه الألباني.
وعن عائشة أن فاطمة - عليها السلام - أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من النبي صلى الله عليه وسلم فيما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم تطلب صدقة النبي صلى الله عليه وسلم التي بالمدينة، وفدك، وما بقي من خمس خيبر، فقال أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا نورث ما تركنا فهو صدقة، إنما يأكل آل محمد من هذا المال. يعني مال الله ليس لهم أن يزيدوا على المأكل ـ وإني والله لا أغير شيئًا من صدقات النبي صلى الله عليه وسلم التي كانت عليها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولأعملن فيها بما عمل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه البخاري، ومسلم.
وممن قام على أمر الفيء، ولم يخالف أبا بكر، ولا عمر في صنيعهما: عليٌّ - رضي الله عنه - وقد ظل على ذلك بعد أن آلت إليه الخلافة، وكذلك بنوه من بعده، فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: أرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عثمان إلى أبي بكر يسألنه ثمنهن مما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، فكنت أنا أردهن، فقلت لهن: ألا تتقين الله، ألم تعلمن أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: لا نورث، ما تركنا صدقة ـيريد بذلك نفسه ـ إنما يأكل آل محمد صلى الله عليه وسلم في هذا المال. فانتهى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما أخبرتهن، قال- [أي عروة بن الزبير راويه عن عائشة -: فكانت هذه الصدقة بيد عليٍّ منعها عليٌّ عباسًا فغلبه عليها، ثم كان بيد حسن بن علي، ثم بيد حسين بن علي، ثم بيد علي بن حسين، وحسن بن حسن كلاهما كانا يتداولانها، ثم بيد زيد بن حسن، وهي صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم حقًّا. رواه البخاري.
وقال القرطبي في المفهم: لما ولي علي الخلافة لم يغيرها عما عمل فيها في عهد أبي بكر، وعمر، وعثمان، ولم يتعرض لتملكها، ولا لقسمة شيء منها، بل كان يصرفها في الوجوه التي كان من قبله يصرفها فيها، ثم كانت بيد حسن بن علي، ثم بيد حسين بن علي، ثم بيد علي بن الحسين، ثم بيد الحسين بن الحسن، ثم بيد زيد بن الحسن، ثم بيد عبدالله بن الحسن، ثم تولاها بنو العباس على ما ذكره أبو بكر البرقاني في صحيحه، وهؤلاء كبراء أهل البيت - رضى الله عنهم - وهم معتمد الشيعة، وأئمتهم، لم يرو عن واحد منهم أنه تملكها، ولا ورثها، ولا ورثت عنه، فلو كان ما يقوله الشيعة حقًّا لأخذها علي، أو أحد من أهل بيته لما ظفروا بها، ولم فلا. اهـ.
وقال ابن كثير في البداية والنهاية: لما حصل من فاطمة - رضي الله عنها - عتب على الصديق بسبب ما كانت متوهمة من أنها تستحق ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تعلم بما أخبرها به الصديق - رضي الله عنه - أنه قال: " لا نورث من تركنا فهو صدقة " فحجبها، وغيرها من أزواجه، وعمَّه عن الميراث بهذا النص الصريح .. فسألته أن ينظر عليٌّ في صدقة الأرض التي بخيبر وفدك، فلم يجبها إلى ذلك؛ لأنه رأى أن حقًّا عليه أن يقوم في جميع ما كان يتولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق البار الراشد التابع للحق - رضي الله عنه - فحصل لها - وهي امرأة من البشر ليست بواجبة العصمة - عتب وتغضب، ولم تكلم الصديق حتى ماتت، واحتاج علي أن يراعي خاطرها بعض الشيء، فلما ماتت بعد ستة أشهر من وفاة أبيها صلى الله عليه وسلم رأى علي أن يجدد البيعة مع أبي بكر - رضي الله عنه -. اهـ.
وأما النقطتان الثانية والثالثة: فراجع فيهما الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 25073، 38637، 246694. وقد قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: لعله لم يعلم أبا بكر بموتها؛ لأنه ظن أن ذلك لا يخفى عنه، وليس في الخبر ما يدل على أن أبا بكر لم يعلم بموتها ولا صلى عليها. اهـ.
وأما النقطة الرابعة: فقد عُرف مما سبق أن أبا بكر، وعمر لم يمنعا ذوي القربي حقهم في الفيء، أو الغنيمة، وإنما أبيا تمليك أرض الفيء لأحد على سبيل الميراث، وهذا هو ما منع أبو بكر منه فاطمة - رضي الله عنها -.
وأما جعلها تحت يده يتصرف فيها كما كان يتصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقسمها كما كان يقسمها، فهذا قد حصل مع علي، والعباس - رضي الله عنهما -.
وإن كان لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم خصوصية في ذلك؛ فلمكان حبسهن عليه بعد وفاته صلوات الله وسلامه عليه، قال ابن رشد في البيان والتحصيل: إنما خير عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أزواج النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فيما خيرهن فيه؛ لأن النفقة كانت واجبة لهن بعد موت النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فيما أفاء الله عليه من بني النضير، وفدك، وسهمه بخيبر؛ بقوله عز وجل: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ} [الحشر: 6] الآية، كما كانت تجب لهن في حياته من أجل أنهن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ - كن محبوسات عليه؛ ليكن أزواجه في الجنة، محرمات على غيره، يبين ذلك قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يقتسم ورثتي دينارًا، ما تركت بعد نفقة نسائي، ومؤنة عائلتي؛ فهو صدقة» فكان أبو بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بعد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يلي ما أفاء الله على نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من ذلك، مما كان يليه هو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حياته؛ وكان ينفق منه على عياله، ويجعل ما بقي في الكراع والسلاح؛ وفي هذه الولاية تخاصم إليه علي، والعباس؛ ليوليها كل واحد منهما بما كان يليها به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم سار عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بعد أبي بكر في ذلك بسيرة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وأبي بكر؛ غير أنه خير أزواج النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فيما يخترنه من إقطاع الأرض، أو إجراء الأوسق. اهـ.
وقال ابن حجر في فتح الباري: وإنما كان عمر يعطيهن ذلك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: "ما تركت بعد نفقة نسائي فهو صدقة" .. وسيأتي بعد أبواب من طريق موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر أن عمر أجلى اليهود والنصارى من أرض الحجاز. اهـ.
وهنا ننبه على احتمال أن يكون هذا التخيير قد وقع من عمر لكل من له سهم في خيبر دون تخصيص لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك تمهيدًا لإجلاء اليهود منها، قال أبو عبد الله الواقدي في المغازي: حدثني إبراهيم بن جعفر، عن أبيه، قال: خير عمر - رضي الله عنه - الناس كلهم، فمن شاء أخذ الطعمة كيلًا، ومن شاء أخذ الماء والتراب، وأذن لمن شاء باع، ومن أحب أن يمسك أمسك من الناس كلهم ... قال أبو عبد الله: هذا الثبت عندنا، والذي رأيت عليه أهل المدينة، وحدثني أيوب بن النعمان، عن أبيه، قال: خير عمر - رضي الله عنه - من كانت له طعمة أن يعطيه من الماء، والأرض، أو الطعمة مضمونة، فكان أسامة بن زيد اختار الطعمة مضمونة، ولما فرغ عمر - رضي الله عنه - من القسمة أخرج يهود خيبر ... اهـ.
والله أعلم.