الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فهذه المسألة محل خلاف بين أهل العلم، وقد أطنب في بيان هذا الخلاف العلامة ابن القيم -رحمه الله- في مدارج السالكين، وذكر أن من فضلوا من لم يعص، على من عصى وتاب. استدلوا بوجوه أوصلها ابن القيم إلى عشرة أوجه.
أَحَدُهَا: أَنَّ أَكْمَلَ الْخَلْقِ وَأَفْضَلَهُمْ أَطْوَعُهُمْ لِلَّهِ، وَهَذَا الَّذِي لَمْ يَعْصِ أَطْوَعُ، فَيَكُونُ أَفْضَلَ.
الثَّانِي: أَنَّ فِي زَمَنِ اشْتِغَالِ الْعَاصِي بِمَعْصِيَتِهِ، يَسْبِقُهُ الْمُطِيعُ عِدَّةَ مَرَاحِلَ إِلَى فَوْقُ، فَتَكُونُ دَرَجَتُهُ أَعْلَى مِنْ دَرَجَتِهِ، وَغَايَتُهُ أَنَّهُ إِذَا تَابَ اسْتَقْبَلَ سَيْرَهُ لِيَلْحَقَهُ، وَذَاكَ فِي سَيْرٍ آخَرَ، فَأَنَّى لَهُ بِلَحَاقِهِ؟
الثَّالِثُ: أَنَّ غَايَةَ التَّوْبَةِ أَنْ تَمْحُوَ عَنْ هَذَا سَيِّئَاتِهِ، وَيَصِيرَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يَعْمَلْهَا، فَيَكُونَ سَعْيُهُ فِي مُدَّةِ الْمَعْصِيَةِ لَا لَهُ وَلَا عَلَيْهِ، فَأَيْنَ هَذَا السَّعْيُ مِنْ سَعْيِ مَنْ هُوَ كَاسِبٌ رَابِحٌ؟
الرَّابِعُ: أَنَّ اللَّهَ يَمْقُتُ عَلَى مَعَاصِيهِ، وَمُخَالَفَةِ أَوَامِرِهِ، فَفِي مُدَّةِ اشْتِغَالِ هَذَا بِالذُّنُوبِ كَانَ حَظُّهُ الْمَقْتَ، وَحَظُّ الْمُطِيعِ الرِّضَا، فَاللَّهُ لَمْ يَزَلْ عَنْهُ رَاضِيًا، وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا خَيْرٌ مِمَّنْ كَانَ اللَّهُ رَاضِيًا عَنْهُ ثُمَّ مَقَتَهُ، ثُمَّ رَضِيَ عَنْهُ، فَإِنَّ الرِّضَا الْمُسْتَمِرَّ خَيْرٌ مِنَ الَّذِي تَخَلَّلَهُ الْمَقْتُ.
الْخَامِسُ: أَنْ الذَّنْبَ بِمَنْزِلَةِ شُرْبِ السُّمِّ، وَالتَّوْبَةَ تِرْيَاقُهُ وَدَوَاؤُهُ، وَالطَّاعَةَ هِيَ الصِّحَّةُ وَالْعَافِيَةُ، وَصِحَّةٌ وَعَافِيَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ، خَيْرٌ مِنْ صِحَّةٍ تَخَلَّلَهَا مَرَضٌ، وَشُرْبُ سُمٍّ أَفَاقَ مِنْهُ، وَرُبَّمَا أَدَّيَا بِهِ إِلَى التَّلَفِ، أَوِ الْمَرَضِ أَبَدًا. إلى آخر ما ذكره من الأوجه رحمه الله.
ثم ذكر القول الثاني وهو تفضيل التائب، وما يقويه من الأوجه كمحبة الله للتوبة، وفرحه بتوبة التائب، وما تتضمنه التوبة من الذل والانكسار الذي هو حقيقة العبودية، وما يكون من فضل الله على التائب، وتبديل سيئاته حسنات إلى آخر ما استدلوا به، والذي يستخلص من ترجيح شيخ الإسلام- رحمه الله- أن هَذَا يختلف بِحَسَبِ حَالِ التَّائِبِ بَعْدَ تَوْبَتِهِ، وَجِدِّهِ وَعَزْمِهِ، وَحَذَرِهِ وَتَشْمِيرِهِ. فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَعْظَمَ مِمَّا كَانَ لَهُ قَبْلَ الذَّنْبِ، فهو خير ممن لم يذنب وهكذا.
والله أعلم.