الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالأصل عدم وقوع الخلع إلا بموافقة الزوج، وهو ما أوضحناه في الفتوى رقم: 126259.
واستثنى بعض الفقهاء قديمًا وحديثًا من هذا الأصل بعض حالات الشقاق، والنزاع المستحكم بين الزوجين، فأجازوا الخلع بغير موافقة الزوج، إما من خلال حكم القاضي الشرعي إذا ثبت لديه ما يوجب الخلع، جاء في كشاف القناع للبهوتي: وقال في الاختيارات: والتحقيق أنه يصح ممن يصح طلاقه بالملك، أو الوكالة، أو الولاية، كالحاكم في الشقاق، وكذا لو فعله الحاكم في الإيلاء، أو العنة، أو الإعسار، وغيرها من المواضع التي يملك الحاكم فيها الفرقة. اهـ.
وإما من خلال حكم الحكمين مباشرة إذا كانت المرأة سببًا في الشقاق، واتفقا على الخلع، وهو مذهب المالكية في المشهور عنهم، وأحمد في أرجح الروايتين، والشافعي في أحد قوليه، قال الإمام القرطبي: والصَحيحُ الأوّل، وأن لِلْحَكَمَيْنِ التَّطْلِيقَ دُونَ تَوْكِيلٍ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنِ الشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها ـ وَهَذَا نَصٌّ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُمَا قَاضِيَانِ، لَا وَكِيلَانِ، وَلَا شَاهِدَانِ. اهـ.
وينظر تقرير مذهب المالكية في الفتوى رقم: 105875.
فإذا تقرر ما سبق علمنا أن هذه المسألة من مسائل الاختلاف الاجتهادية، وليست من مسائل الإجماع، خلافًا لما ادعاه بعض المعاصرين؛ ولذلك نجد علماء الفقه المقارن المتقدمين يقررون الخلاف فيها، فهذا الإمام ابن رشد الحفيد يقول في باب: بعث الحكمين: وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْرِيقِ الْحَكَمَيْنِ بَيْنَهُمَا إِذَا اتَّفَقَا عَلَى ذَلِكَ هَلْ يُحْتَاجُ إِلَى إِذْنٍ مِنَ الزَّوْجِ، أَوْ لَا يُحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ؟ فَقَالَ مَالِكٌ، وَأَصْحَابُهُ: يَجُوزُ قَوْلُهُمَا فِي الْفُرْقَةِ، وَالِاجْتِمَاعِ بِغَيْرِ تَوْكِيلِ الزَّوْجَيْنِ، وَلَا إِذْنٍ مِنْهُمَا فِي ذَلِكَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُمَا: لَيْسَ لَهُمَا أَنْ يُفَرِّقَا، إِلَّا أَنْ يَجْعَلَ الزَّوْجُ إِلَيْهِمَا التَّفْرِيقَ، وَحُجَّةُ مَالِكٍ مَا رَوَاهُ مِنْ ذَلِكَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ فِي الْحَكَمَيْنِ: إِلَيْهِمَا التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَالْجَمْعُ، وَحُجَّةُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الطَّلَاقَ لَيْسَ بِيَدِ أَحَدٍ سِوَى الزَّوْجِ، أَوْ مَنْ يُوَكِّلُهُ الزَّوْجُ. اهـ.
والله أعلم.