الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فليعلم أولا أن أئمة الإسلام الذين لهم قدم صدق في نصرة الدين كالأربعة وأشباههم إنما قامت فتاواهم ومذاهبهم على تحري الدليل ونصرته ما أمكن، ولا يتصور في حقهم أن يظهر لواحد منهم دليل فيقول بخلافه، وقد بسط هذا شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ بما لا مزيد عليه في رفع الملام، وإذا كان الترجيح بين المذاهب يفضي إلى تنقص المرجوح والزراية عليه فهو غير جائز، قال الشاطبي في الموافقات: كثير من الناس تجاوزوا الترجيح بالوجوه الخالصة إلى التَّرْجِيحِ بِبَعْضِ الطَّعْنِ عَلَى الْمَذَاهِبِ الْمَرْجُوحَةِ عِنْدَهُمْ، أَوْ عَلَى أَهْلِهَا الْقَائِلِينَ بِهَا، مَعَ أَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ مَذَاهِبَهُمْ وَيَعْتَدُّونَ بِهَا وَيُرَاعُونَهَا، وَيُفْتُونَ بِصِحَّةِ الِاسْتِنَادِ إِلَيْهِمْ فِي الْفَتْوَى، وَهُوَ غَيْرُ لَائِقٍ بِمَنَاصِبِ الْمُرَجِّحِينَ، وَأَكْثَرُ مَا وَقَعَ ذَلِكَ فِي التَّرْجِيحِ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَمَا يَلِيهَا مِنْ مَذْهَبِ دَاوُدَ وَنَحْوِهِ. انتهى.
فإذا تبين لك هذا، فإن الناس اختلفوا في جواز الترجيح بين المذاهب المتبوعة، قال في شرح مختصر الروضة: وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْقَاضِيَ عَبْدَ الْجَبَّارِ يَقُولُ: إِنَّ التَّرْجِيحَ لَهُ مَدْخَلٌ فِي الْمَذَاهِبِ بِحَيْثُ يُقَالُ: مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ مَثَلًا أَرْجَحُ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ بِالْعَكْسِ، وَخَالَفَهُ غَيْرُهُ ـ ثم ساق حجة عبد الجبار وحجة مخالفيه، ثم قال: الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أي من وجوه المانعين من الترجيح بين المذاهب ـ أَنْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَذَاهِبِ لَيْسَ مُتَمَحِضًا فِي الْخَطَأِ وَلَا فِي الصَّوَابِ، بَلْ هُوَ مُصِيبٌ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ، مُخْطِئٌ فِي بَعْضِهَا، وَعَلَى هَذَا، فَالْمَذْهَبَانِ لَا يَقْبَلَانِ التَّرْجِيحَ لِإِفْضَاءِ ذَلِكَ إِلَى التَّرْجِيحِ بَيْنَ الْخَطَأِ وَالصَّوَابِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، أَوْ بَيْنَ خَطَأَيْنِ وَصَوَابَيْنِ، وَالْخَطَأُ لَا مَدْخَلَ لِلتَّرْجِيحِ فِيهِ اتِّفَاقًا، قُلْتُ: وَهَذَا الْوَجْهُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ النِّزَاعَ لَفْظِيٌّ وَهُوَ أَنَّ مَنْ نَفَى التَّرْجِيحَ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ، فَإِنَّمَا أَرَادَ: لَا يَصِحُّ تَرْجِيحَ مَجْمُوعِ مَذْهَبٍ عَلَى مَجْمُوعِ مَذْهَبٍ آخَرَ لِمَا ذَكَرَ، وَمَنْ أَثْبَتَ التَّرْجِيحَ بَيْنَهُمَا، أَثْبَتَهُ بِاعْتِبَارِ مَسَائِلِهَا الْجُزْئِيَّةِ، وَهُوَ صَحِيحٌ، إِذْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: مَذْهَبُ مَالِكٍ فِي أَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ فِي الْحَدَثِ طَهُورٌ أَرْجَحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي أَنَّهُ غَيْرُ طَهُورٍ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي أَنَّ النَّهْيَ عَنِ التَّطَوُّعِ بَعْدَ الْفَجْرِ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِهَا أَرْجَحُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ فِي أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي إِجْزَاءِ الْبَعِيرِ عَنْ خَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ، وَفِي تَقْدِيمِ بَيِّنَةِ الدَّاخِلِ وَنَحْوُهَا مِنَ الْمَسَائِلِ أَرْجَحُ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي طَهَارَةِ الْأَعْيَانِ بِالِاسْتِحَالَةِ أَرْجَحُ مِنْ غَيْرِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْجُزْئِيَّاتِ الْقَابِلَةِ لِلرُّجْحَانِ وَالْمَرْجُوحِيَّةِ، وَحِينَئِذٍ يَعُودُ النِّزَاعُ لَفْظِيًّا، إِذْ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ قَوْلِنَا: يَجُوزُ التَّرْجِيحُ فِي الْمَذَاهِبِ، وَلَا يَجُوزُ، لِاخْتِلَافِ مَوْضُوعِ الْحُكْمِ بِالْكُلِّ وَالْجُزْءِ. انتهى.
وإذا علمت ما تقرر تبين لك أن الأمر نسبي، وأن بعض المذاهب قد يكون أقرب إلى الدليل في مسألة وغيره أقرب إليه في مسألة أخرى، ومن ترجح له أحد المذاهب بنظر أو تقليد سائغ فليتبعه ولا حرج عليه في ذلك، وقد أجمع الناس على عدم الإنكار على من اتبع أي مذهب من هذه المذاهب المعتبرة، وهو إنما يتبعه لاعتقاده رجحانه بنظر أو تقليد سائغ، قال الطوفي: ثُمَّ إِنَّ التَّرْجِيحَ فِي الْمَذَاهِبِ وَاقِعٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَهُوَ دَلِيلُ الْجَوَازِ قَطْعًا، وَذَلِكَ، لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدِ اقْتَسَمُوا الْمَذَاهِبَ الْأَرْبَعَةَ وَغَيْرَهَا فِيمَا تَقَدَّمَ، كَمَذْهَبِ سُفْيَانَ، وَدَاوُدَ، وَغَيْرِهِمَا، فَكُلُّ مَنْ حَسُنَ ظَنُّهُ بِمَذْهَبٍ تَعَبَّدَ بِهِ، وَاتَّخَذَهُ دِينًا، حَتَّى غَلَبَ مَذْهَبُ مَالِكٍ عَلَى أَهْلِ الْمَغْرِبِ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى أَهْلِ الْمَشْرِقِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ عَلَى غَالِبِ الْبِلَادِ بَيْنَهُمَا، وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ عَلَى أَهْلِ جِيلَانَ، فَكُلُّ مَنِ الْتَزَمَ مَذْهَبًا، فَإِنَّمَا هُوَ لِرُجْحَانِهِ عِنْدَهُ بِتَرْجِيحِهِ بِاجْتِهَادٍ أَوْ تَقْلِيدٍ، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عَدَمِ الْإِنْكَارِ عَلَى مَنِ الْتَزَمَ أَيَّ مَذْهَبٍ شَاءَ بِذَلِكَ التَّرْجِيحِ، فَكَانَ التَّرْجِيحُ فِي الْمَذَاهِبِ ثَابِتًا بِالْإِجْمَاعِ. انتهى.
ولا شك في أن مذاهب الثلاثة مالك والشافعي وأحمد أقرب إلى الآثار من مذهب أهل الرأي؛ وإن كان مذهبهم قويا من حيث معرفة القياس ووجوه الاعتبار، والمذاهب الثلاثة قد يرجح أحدها بمرجح ما كأن يقال: إن مذهب مالك أرجح لتقدمه، أو يقال مذهب الشافعي أرجح لجمعه بين فقه أهل العراق وأهل الحجاز وللإجماع على تقدمه في علوم الإسلام المختلفة، وقد يقال مذهب أحمد أرجح لسعة حفظه وما عرف عنه من المبالغة في اتباع الآثار.
ويبقى الأمر نسبيا كما قررناه، وعلى طالب العلم أن يشتغل بمذهب من تلك المذاهب حتى يتقنه، ثم متى تكونت له الملكة الفقهية صار قادرا على معرفة الراجح من المرجوح.
والله أعلم.