الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فقبل الجواب عما سألت عنه، نريد أولا أن نصحح لك الآية الكريمة، وهي قوله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ .... {النور:35}.
ثم اعلم أن من صفات الله سبحانه وتعالى أنه نور، وهي صفة ذات، لازمة له تعالى، على ما يليق به، وبهذا الوصف وصفه النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربك؟ قال: نور، أنى أراه. وفي صحيح مسلم: حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في شفاء العليل: ولما كان النور من أسمائه الحسنى، وصفاته، كان دينه نوراً، ورسوله نوراً، وداره نوراً يتلألأ، والنور يتوقد في قلوب عباده المؤمنين، ويجري على ألسنتهم، ويظهر على وجوههم. انتهى.
وقال شيخ الإسلام- رحمه الله- في مجموع الفتاوى: وإن مما قضى الله علينا في كتابه، ووصف به نفسه، ووردت السنة بصحة ذلك أنه قال: اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [سورة النــور: 35]. ثم قال عقيب ذلك: نُّورٌ عَلَى نُورٍ. وبذلك دعاه النبي صلى الله عليه وسلم: أنت نور السماوات، والأرض. انتهى.
وأما عن قوله تعالى: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ {النور:35}. فقد ضرب الله تعالى فيها مثلا لنوره في قلب عبده المؤمن، فشبهه بالمشكاة المذكور وصفها في الآية.
قال السعدي ـ رحمه الله ـ في تفسيره: مثل نوره الذي يهدي إليه، وهو نور الإيمان، والقرآن في قلوب المؤمنين، ـ كَمِشْكَاةٍ ـ أي: كوة ـ فِيهَا مِصْبَاحٌ ـ لأن الكوة تجمع نور المصباح بحيث لا يتفرق ذلك الْمِصْبَاحُ. فِي زُجَاجَةٍ، الزُّجَاجَةُ ـ من صفائها وبهائها: كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ ـ أي: مضيء، إضاءة الدر-يُوقَدُ ـ ذلك المصباح، الذي في تلك الزجاجة الدرية: مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ ـ أي: يوقد من زيت الزيتون الذي ناره من أنور ما يكون: لا شَرْقِيَّةٍ ـ فقط، فلا تصيبها الشمس آخر النهار: وَلا غَرْبِيَّةٍ ـ فقط، فلا تصيبها الشمس أول النهار، وإذا انتفى عنها الأمران، كانت متوسطة من الأرض، كزيتون الشام، تصيبها الشمس أول النهار وآخره، فتحسن وتطيب، ويكون أصفى لزيتها؛ ولهذا قال: يَكَادُ زَيْتُهَا ـ من صفائه: يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ـ فإذا مسته النار، أضاء إضاءة بليغة: نُورٌ عَلَى نُورٍ ـ أي: نور النار، ونور الزيت، ووجه هذا المثل الذي ضربه الله، وتطبيقه على حالة المؤمن، ونور الله في قلبه، أن فطرته التي فطر عليها بمنزلة الزيت الصافي، ففطرته صافية، مستعدة للتعاليم الإلهية، والعمل المشروع، فإذا وصل إليه العلم والإيمان، اشتعل ذلك النور في قلبه، بمنزلة اشتعال النار في فتيلة ذلك المصباح، وهو صافي القلب من سوء القصد، وسوء الفهم عن الله، إذا وصل إليه الإيمان، أضاء إضاءة عظيمة، لصفائه من الكدورات، وذلك بمنزلة صفاء الزجاجة الدرية، فيجتمع له نور الفطرة، ونور الإيمان، ونور العلم، وصفاء المعرفة، نور على نور، ولما كان هذا من نور الله تعالى، وليس كل أحد يصلح له ذلك، قال: يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ـ ممن يعلم زكاءه، وطهارته، وأنه يزكو معه وينمو: وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاس ـ ليعقلوا عنه ويفهموا، لطفا منه بهم، وإحسانا إليهم، وليتضح الحق من الباطل، فإن الأمثال تقرب المعاني المعقولة من المحسوسة، فيعلمها العباد علما واضحا: وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. انتهى.
والله أعلم.