الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فما ورد عن ابراهيم عليه السلام في الحديث المتفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بلحم، فرفع إليه الذراع، وكانت تعجبه، فنهس منها نهسة ثم قال: أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون مم ذلك؟ يجمع الله الناس الأولين والآخرين في صعيد واحد، يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، وتدنو الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول الناس: ألا ترون ما قد بلغكم، ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: عليكم بآدم، فيأتون آدم -عليه السلام- فيقولون له: أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه، ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحًا، فيقولون: يا نوح، إنك أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وقد سماك الله عبدًا شكورًا، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول: إن ربي عز وجل قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد كانت لي دعوة دعوتها على قومي، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتون إبراهيم، فيقولون: يا إبراهيم، أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول لهم: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قد كنت كذبت ثلاث كذبات - فذكرهن أبو حيان في الحديث - نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى...
فهذا الكذب المذكور هنا لا يعني به ما جاء في آية الأنعام، وإنما يعني به ما في آيتي الأنبياء، والصافات، وقصة سارة، كما في الصحيحين، وغيرهما عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لم يكذب إبراهيم النبي -عليه السلام- قط إلا ثلاث كذبات، ثنتين في ذات الله، قوله: إني سقيم، وقوله: بل فعله كبيرهم هذا، وواحدة في شأن سارة. اهـ.
ثم إن الكذب الوارد هنا ليس من الخطايا الممنوعة، وإنما هو من التعريض المباح، كما قال ابن العربي في الأحكام، وابن تيمية في الفتاوى، والسرخسي في السير، وابن حجر، وابن عاشور، وغيرهم.
قال ابن العربي: قوله تعالى: {بل فعله كبيرهم هذا} اختلف الناس في ظاهر المقصود به, فمنهم من قال: هذا تعريض, وفي التعاريض مندوحة عن الكذب، ومنهم من قال: بل فعله كبيرهم إن كانوا ينطقون; فشرط النطق في الفعل، والأول أصح: لأنه عدده على نفسه, فدل على أنه خرج مخرج التعريض.. اهـ
وقال ابن حجر في فتح الباري عند شرحه لحديث الشفاعة قال: وفي رواية همام: إني كنت كذبت ثلاث كذبات. زاد شيبان في روايته قوله: إني سقيم، وقوله: فعله كبيرهم هذا، وقوله لامرأته: أخبريه أني أخوك. وفي الحقيقة أنها ليس خطيئات؛ لأنه صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما منها كذبة إلا ماحل بها عن دين الله.
وقال في الفتح أيضًا: قال ابن عقيل: دلالة العقل تصرف ظاهر الكذب على إبراهيم، وذلك أن العقل قطع بأن الرسول صلى الله عليه وسلم ينبغي أن يكون موثوقًا به؛ ليعلم صدق ما جاء به عن الله، ولا ثقة مع تجويز الكذب عليه، فكيف مع وجود الكذب منه؟ إنما أطلق عليه ذلك لكونه بصورة الكذب عند السامع، وعلى تقديره فلم يصدر ذلك من إبراهيم عليه السلام - يعني إطلاق الكذب على ذلك - إلا في حال شدة الخوف لعلو مقامه، وإلا فالكذب المحض في مثل تلك المقامات يجوز، وقد يجب لتحمل أخف الضررين دفعًا لأعظمهما، وأما تسميته إياها كذبات، فلا يريد أنها تذم، فإن الكذب وإن كان قبيحًا مخلًا، لكنه قد يحسن في مواضع، وهذا منها.
وأما آيات الأنعام التي ابتدأها الله تعالى بقوله: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ [الأنعام:76]، وآخرها قوله تعالى: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:79].
فقد اختلف العلماء في تفسيرها على عدة أقوال، وقد لخصها العلامة صديق حسن القنوجي في تفسيره فتح البيان بقوله: ثم اختلف في تأويل هذه الآية، فقيل: أراد إقامة الحجة على قومه، كالحاكي لما هو عندهم، وما يعتقدونه، لأجل إلزامهم، وقيل: معناه، أهذا ربي؟ أنكر أن يكون مثل هذا ربًّا، ومثله قوله تعالى: أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ [الأنبياء:34]، أي: أفهم الخالدون؟ وقيل المعنى: وأنتم تقولون: هذا ربي، فأضمر القول، وقيل المعنى: على حذف مضاف، أي هذا دليل ربي. انتهى
وقال ابن كثير في تفسيره: اختلف المفسرون في هذا المقام، هل هو مقام نظر أو مناظرة، فروى ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس ما يقتضي أنه مقام نظر، واختاره ابن جرير مستدلاً بقوله (لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ)... والحق أن إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- كان في هذا المقام مناظرًا لقومه مبينًا لهم بطلان ما كانوا عليه من عبادة الهياكل والأصنام. اهـ
وقال ابن حجر في فتح الباري: قاله في حال الطفولية فلم يعدها؛ لأن حال الطفولية ليست بحال تكليف، وهذه طريقة ابن إسحاق، وقيل: إنما قال ذلك بعد البلوغ، لكنه قاله على طريق الاستفهام الذي يقصد به التوبيخ، وقيل: قاله على طريق الاحتجاج على قومه تنبيهًا على أن الذي يتغير لا يصلح للربوبية، وهذا قول الأكثر إنه قال توبيخًا لقومه، أو تهكمًا بهم، وهو المعتمد؛ ولهذا لم يعد ذلك في الكذبات، وأما إطلاقه الكذب على الأمور الثلاثة فلكونه قال قولاً يعتقده السامع كذبًا، لكنه إذا حقق لم يكن كذبًا؛ لأنه من باب المعاريض المحتملة للأمرين، فليس بكذب محض. انتهى.
والله أعلم.