الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فمن المعلوم أن الله -جلَّ وعلا- قد بعث رسوله -صلوات الله وسلامه عليه- بدين الإسلام، وجعله صلى الله عليه وسلم ـ خاتم الرسل، وجعل ملته ناسخة لجميع الملل، وكتابه مهيمنًا على كافة الكتب قال تعالى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ {المائدة: 48}.
وكان من تمام النعمة على العباد، أن أكمل الله -جلَّ وعلا- لهم هذا الدين، وكفاهم به عن غيره، فانتظمت بذلك مصالحهم واستقامت أمورهم على وجه التمام والكمال. كما قال تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا {المائدة: 3}.
ومن المعلوم أيضا -بالضرورة- أن مقتضى كمال الدين وتمام النعمة صلاحيته لكل زمان ومكان، على اختلاف الأعصار وتنائي الأمصار، وذلك لأن كمال الملة إنما كان لتحقق وصفين اثنين:
الأول: كونها تفي بمقاصد التشريع العامة.
والثاني: كونها صالحة لكل زمان ومكان.
إذا عُلم هذا فَليعْلم أن حاجات الخلق تختلف وتتغير بحسب ظروف المكان والأوان، وتحصل للناس أقضية بحسبهم، ووقائعهم تتلوَّن بحسب واقعهم، فمن المعلوم بداهة أن هذه الوقائع لا تتناهى والنصوص الشرعية ليست كذلك، فاقتضى ذلك تشريع الاجتهاد في هذه الملة المباركة لتفي بحاجات الخلق ومصالحهم المتجددة المتغيرة.
وهذا الذي قررناه هو من جنس المعلوم بالضرورة من دين المسلمين، وباتفاق جميع المسلمين، وكذلك أصل الاجتهاد في الشرع -إذا توفرت شرائطه- مشروع باتفاق الأمة وبإجماع الأئمة -رحمهم الله تعالى-.
وأيضًا فقد أجمع العلماء على وقوع الاجتهاد في صدر هذه الأمة وتسويغه لأهله في ذلك الحين، لكن تكلمت طائفة من متأخري أهل العلم بالأصول والفقه في ذلك، فحكمت بسدّ باب الاجتهاد بعد استقرار المذاهب الأربعة وتدوينها، وقيده بعضهم بالقرن الثامن للهجرة بعد انقراض مذهب الظاهرية، وبالغ بعض هؤلاء، فادعى الإجماع على تحريم الاجتهاد في هذه الأعصار المتأخرة، وعلى حرمة الخروج على المذاهب الأربعة المتبعة إلى زمن خروج المهدي -رضي الله عنه-.
وعقد لهذا المعنى في مراقي السعود فقال:
والمجمع اليوم عليه الأربعه وقفو غيرها الجميع منعه
حتى يجيء الفاطمي المجدد دين الهدى، لأنه مجتهد
والصحيح المعتمد أن الاجتهاد إن صدر من مؤهل بأن توفرت شرائطه المعتبرة شرعاً، أن ذلك مشروع لا غبار عليه، بل إن التحقيق أن من قال بسَدِّ باب الاجتهاد مطلقاً أنه ما قال ذلك إلا سدّاً للذريعة لما رأى جرأة الجهال على دين الله. فالذين منعوا الاجتهاد. اجتهدوا في منعه عند التحقيق.
وأما دعوى الإجماع فهي منقوضة، وقد تضافرت دلائل الكتاب والسنة على استمرار الاجتهاد في هذه الامة وبقائه فيها، فمن الكتاب مثلا، ما قدمناه أولا، ومن السنة ما استفاض عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم إلى قيام الساعة. وهذا الحديث مخرج في الصحيحين وغيرهما من وجوه عديدة، وقد احتج به الإمام أحمد -رحمه الله- على بقاء الاجتهاد في هذه الأمة.
إلا أننا نود الإشارة إلى جملة أمور:
الأول: أن الاجتهاد وإن كان مشروعًا في نفسه إلا أن له شرائطه المعتبرة التي لا يسوغ تجاوزها وتعديها.
الثاني: أننا وإن قلنا بمشروعية الاجتهاد بشروطه، فإن ذلك لا يعني عدم الالتفات لأقاويل أهل العلم واعتبارها، بل يجب أن تعطى حقها، وتنال القدر اللائق بها.
الثالث: أنه لا يجوز إحداث قول جديد في مسألة اختلف فيها أهل العلم قديماً واقتصروا فيها على أقوال معينة، بل يتخير من أقاويلهم ويعتمد الأصح منها.
وهذا القول الصحيح في هذه المسألة.
والله أعلم.