الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا ينبغي للمسلم أن يكثر من الحلف بالله؛ لما في ذلك من الجرأة على الله سبحانه وتعالى, وعدم هيبته وتعظيمه، فقد قال الله تعالى: وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ {البقرة:224}، وقال: وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ {المائدة:89}، وجاء ذم كثرة الحلف في قول الله عز وجل: وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ {القلم:10}.
ولذلك ننصح السائلة بالكف عن كثرة الحلف، كما ننصحها بألا تستسلم لوسوسة الشيطان، بل عليها أن تدفع عنها هذه الوساوس، ولا علاج لذلك أفضل من الإعراض عنها, وعدم الالتفات إليها، والتوكل على الله والاستعانة به في دفع ذلك، مع التوبة إلى الله سبحانه وتعالى من كل ذنب, وانظري هاتين الفتويين: 51601، 10355.
وحيث إن السؤال طويل ومتشعب، وفيه من الأمور المحتملة، فإننا نجمل لك الجواب في النقاط التالية:
النقطة الأولى : أن جهلك بما يترتب على الحلف من الكفارة لا أثر له، أي: لا يسقط الكفارة عنك، قال الشيخ ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ في فتاويه: وأما الجهل بما يترتب على الفعل فليس بعذر. انتهى.
وقد ذكر ابن قدامة ـ رحمه الله ـ في المغني: أن الحالف إذا حلف لغريمه: لا فارقتك، فأحاله الغريم بحقه، فظن أنه قد بر بذلك ففارقه، فإن الصحيح فيه أنه يحنث، ثم علل ذلك بقوله: لأن هذا جهل بحكم الشرع فيه، فلا يسقط عنه الحنث، كما لو جهل كون هذه اليمين موجبة للكفارة. انتهى.
النقطة الثانية: أن ما شككت فيه من الأيمان ـ أي: هل وقع منك الحلف أم لا؟ أو شككت في الحنث ـ فلا شيء عليك بمجرد الشك، جاء في الموسوعة الفقهية في موضوع الشك في اليمين: إما أن يكون الشك في أصل اليمين هل وقعت أو لا، كشكه في وقوع الحلف، أو الحلف والحنث؟ فلا شيء على الشاك في هذه الصورة، لأن الأصل براءة الذمة، واليقين لا يزول بالشك. انتهى.
النقطة الثالثة: أن كثرة الأيمان بسبب الوسوسة إن كانت من غير قصد ولا إرادة، فلا شيء عليك, قال الشيخ ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ: المبتلى بالوسواس لا يقع طلاقه ـ حتى لو تلفظ به بلسانه ـ إذا لم يكن عن قصد؛ لأن هذا اللفظ باللسان يقع من الموسوس من غير قصد ولا إرادة، بل هو مغلق عليه ومكره عليه؛ لقوة الدافع وقلة المانع، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا طلاق في إغلاق, فلا يقع منه طلاق إذا لم يرده إرادة حقيقية بطمأنينة، فهذا الشيء الذي يكون مرغمًا عليه بغير قصد ولا اختيار فإنه لا يقع به طلاق. انتهى. واليمين أولى في العذر من الطلاق.
وأما إن كان حلفك بقصد وإرادة، وكان بسبب قطع الوسوسة عنك، فتنعقد اليمين، فإذا حنثت فعليك الكفارة. وانظري الفتوى رقم: 74989.
النقطة الرابعة: أن الحالف لا يحنث إذا زال السبب المحلوف عليه. جاء في الشرح الكبير للشيخ أحمد الدردير عند قول خليل: ثم بساط يمينه ... (ثُمَّ) إنْ عُدِمَتْ النِّيَّةُ أَوْ لَمْ تُضْبَطْ خُصِّصَ، وَقُيِّدَ (بِسَاطُ يَمِينِهِ) ، وَهُوَ السَّبَبُ الْحَامِلُ عَلَى الْيَمِينِ إذْ هُوَ مَظِنَّةُ النِّيَّةِ فَلَيْسَ هُوَ انْتِقَالًا عَنْ النِّيَّةِ بَلْ هُوَ نِيَّةٌ ضِمْنًا مِثَالُهُ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ فِيمَنْ وَجَدَ الزِّحَامَ عَلَى الْمَجْزَرَةِ فَحَلَفَ لَا يَشْتَرِي اللَّيْلَةَ لَحْمًا فَوَجَدَ لَحْمًا دُونَ زِحَامٍ أَوْ انْفَكَّتْ الزَّحْمَةُ فَاشْتَرَاهُ لَا حِنْثَ عَلَيْهِ. انتهى.
النقطة الخامسة: أن اليمين لا تنعقد بمجرد الكتابة من غير نية، وأن كتابة اليمين تعتبر من الكناية، فإذا كتب اليمين بالله من غير نيته لم ينعقد يمينه.
جاء في الموسوعة الفقهية عند ذكر شروط اليمين: الشَّرِيطَةُ الرَّابِعَةُ التَّلَفُّظُ بِالْيَمِينِ، فَلاَ يَكْفِي كَلاَمُ النَّفْسِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الْكِتَابَةَ لَوْ كَانَتْ بِالصَّرِيحِ تُعْتَبَرُ كِنَايَةً. اهـ مختصرا. وجاء في أسنى المطالب: الْيَمِينَ بِاَللَّهِ إنَّمَا تَكُونُ بِاسْمِهِ أَوْ صِفَتِهِ فَلَا تَنْعَقِدُ بِالْكِتَابَةِ. اهـ. ومثله ما جاء في قواعد ابن رجب: الْيَمِينَ بِاَللَّهِ لَا تَصِحُّ بِالْكِتَابَةِ. انتهى.
النقطة السادسة: أن جريان الحلف على اللسان من غير قصد من لغو اليمين الذي لا تجب فيه كفارة، كما قال تعالى: لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ {المائدة:89}.
النقطة السابعة: أن من قال أحلف ـ ومثلها حلفت ـ ونوى به أنه يحلف بالله انعقدت يمينه، قال الخرشي في شرح مختصر خليل: فقال (ص) وكأحلف وأقسم وأشهد إن نوى بالله (ش) يعني أن الشخص إذا قال أحلف أو أقسم أو أشهد لأفعلن كذا ونوى بالله أي أو صفة من صفاته فإنها تكون يمينا وأحرى إن تلفظ بذلك. انتهى. قال العدوي في حاشيته على الخرشي: قال في ك: وماضي هذه كمضارعها. انتهى. أي أن حلف (الماضي) كأحلف (المضارع) في الحكم.
وللفائدة يرجى مراجعة هاتين الفتويين: 2053، 260218.
والله أعلم.