الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فمعنى الآية الكريم كما جاء في تفسير القرطبي -رحمه الله- 7/176: ومن أحسن ما قيل في تأويل: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ [الأعراف:17] أي لأصرفنهم عن الحق وأرغبنهم في الدنيا وأشككهم في الآخرة، وهذا غاية في الضلالة... عن الحكم بن عتيبة قال: من بين أيديهم: من دنياهم، ومن خلفهم من آخرتهم، وعن أيمانهم يعني حسناتهم، وعن شمائلهم يعني سيئاتهم.
قال النحاس: وهذا قول حسن، وشرحه: أن معنى (ثم لآتينهم من بين أيديهم) من دنياهم حتى يكذبون بما فيها من الآيات وأخبار الأمم السالفة، ومن خلفهم من آخرتهم حتى يكذبوا بها، وعن أيمانهم من حسناتهم، وأمور دينهم، ويدل على هذا قوله: (إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين). وعن شمائلهم يعني سيئاتهم أي يتبعون الشهوات، لأنه يزينها لهم، (ولا تجد أكثرهم شاكرين) أي موحدين طائعين مظهرين الشكر. انتهى.
أما عن السبب في ذكر الجهات الأربع وعدم ذكر الفوقية والتحتية: فيقول الإمام أبو بكر الجصاص في كتابه أحكام القرآن: وقيل من كل جهة يمكن الاحتيال عليهم، ولم يقل من فوقهم، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: لأن رحمة الله تنزل عليهم من فوقهم، ولم يقل من تحت أرجلهم، لأن الإتيان منه ممتنع إذا أريد به الحقيقة. انتهى.
وقال الإمام أبو السعود في تفسيره 3/219 عند تفسير الآية المتقدمة: أي من الجهات الأربع التي يعتاد هجوم العدو منها، مثل قصده إياهم للتسويل والإضلال من أي وجه يتيسر بإتيان العدو من الجهات الأربع، ولذلك لم يذكر الفوق والتحت. انتهى.
وقال الإمام النسفي 2/6: ولم يقل من فوقهم ومن تحتهم لمكان الرحمة والسجدة. اهـ.
وأما السبب في ذكر حرف الجر في الأمام والخلف (من)، وذكر حرف الجر (عن) في اليمين والشمال، فيقول الإمام النسفي في المكان المتقدم: وقال في الأوليين (من) لابتداء الغاية، وفي الأخريين (عن) لأن (عن) تدل على الانحراف. انتهى.
وقال الإمام أبو السعود: وإنما عدَّى الفعل إلى الأوليين بحرف الابتداء لأنه منها متوجه إليه، وإلى الأخريين بحرف المجاورة الآتي منها كالمنحرف المتجافي عنهم المار على عرضهم، ونظيره جلست عن يمينه. انتهى.
وأما قولك: وهل إبليس اطلع على الغيب....؟ إلخ، فجوابه: أن علم الغيب مما اختص الله تعالى به، كما قال سبحانه: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل: 65]، وإبليس إنما ظن ظناً، وتوهم أمراً، فوافق ذلك ما قدره الله تعالى وقضاه.
وقد أورد القرطبي في تفسيره 14/292 عن الحسن أنه قال: لما هبط آدم عليه السلام من الجنة ومعه حواء وهبط إبليس، قال إبليس أما إذا أصبت من الأبوين ما أصبت، فالذرية أضعف وأضعف، فكان ذلك ظناً من إبليس، فأنزل الله تعالى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ [سـبأ:20].
وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: إن إبليس قال: خلقت من نار وخلق آدم من طين، والنار تحرق كل شيء، لأحتنكن ذريته إلا قليلاً فصدق ظنه.... وقال الحسن: ما ضربهم بسوط ولا عصا، وإنما ظن ظناً، فكان كما ظن بوسوسته إلا فريقاً من المؤمنين. انتهى.
والله أعلم.