الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالحديث الأول: رواه أحمد، وأبو يعلى، وقال ابن كثير في تفسيره: إسناده على شرط الصحيحين، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة، وقال الهيثمي: رواه أحمد, والبزار بنحوه, وأبو يعلى, ورجالهم رجال الصحيح، وصححه الشيخ شعيب الأرناؤوط.
ومعنى "أن يوطأ": أن يُداس بالأقدام؛ جاء في القاموس المحيط: "وطِئَهُ، بالكسر، يَطَؤُهُ: دَاسَه. انتهى.
وعليه؛ فشرح عبارة (فلما رأت أمه القوم خشيت على ولدها أن يوطأ): أي: خشيت أن يدوسه الناس بأقدامهم لصغره.
وأما باقي الحديث: فقال المناوي في فيض القدير: (والله لا يلقي الله حبيبه في النار) قال ذلك لما مر في نفر من أصحابه، وصبي في الطريق، فلما رأت أمه القوم خشيت على ولدها أن يوطأ، فأقبلت تسعى، وتقول: ابني ابني. فأخذته، فقالوا: يا رسول الله، ما كانت هذه لتلقي ولدها في النار. فذكره. انتهى.
وأما حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-: فقوله في الحديث: الغابر، بمعنى: البعيد، والمعنى العام للمثال، كما في منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري: أي: أنهم يشاهدون عن بعد أهل المنازل العالية في الجنة، كما كانوا يشاهدون في الدنيا الكوكب البعيد في أفق السماء. انتهى. قال ابن علان في دليل الفالحين: أهل الجنة متفاوتو المنازل بحسب درجاتهم في الفضل، حتى إن أهل الدرجات العلى ليراهم من هو أسفل منهم كالنجوم، كما قال: لتفاضل ما بينهم ..والغابر.. قال عياض: معناه الذي يبعد الغروب، وقيل: معناه الغائب، ولكن لا يحسن هنا، لأن المراد بعده عن الأرض كبعد غرف أهل الجنة عن بعضها في رأي العين. والرواية الأولى هي المشهورة. ومعنى الغابر: الذاهب. وقد فسره بقوله في الحديث: "من المشرق إلى المغرب". قال القرطبي: شبه رؤية الرائي في الجنة صاحب الغرفة برؤية الرائي الكوكب المضيء الباقي في جانب الشرق والغرب في الاستضاءة مع البعد، وفائدة ذكر المشرق والمغرب: بيان الرفعة وشدة البعد، والمراد بالأفق: السماء. وفي رواية لمسلم: من الأفق من المشرق والمغرب. انتهى.
وللفائدة نذكر لك إيضاح باقي الحديث: وقوله: " لتفاضل ما بينهم" أي: لأن أهل الجنة يتفاضلون في مساكنهم, ومنازلهم, ودرجاتهم. "قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم" الظاهر: أنه سؤال واستفهام، والمعنى: هل تلك المنازل العالية هي منازل الأنبياء التي لا يصل إليها سواهم؟ "قال: بلى، والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين" أي: أنها ليست خاصة بالأنبياء، ولكنها للصديقين من هذه الأمة المحمدية. انتهى من منار القاري.
وأما حديث رؤية الله: فواضح؛ فالمؤمنون يرون ربهم لا يتضارون في رؤيته؛ قال النووي في شرح مسلم: وروى: تضارون بتشديد الراء، وبتخفيفها، والتاء مضمومة فيهما، ومعنى المشدد: هل تضارّون غيركم في حالة الرؤية بزحمة أو مخالفة في الرؤية، أو غيرها؟ لخفائه كما تفعلون أول ليلة من الشهر. ومعنى المخفف: هل يلحقكم في رؤيته ضير وهو الضرر؟
وقال ابن هبيرة في الإفصاح عن معاني الصحاح: في هذا الحديث الدليل الواضح على رؤية المؤمنين ربهم -عز وجل- في الآخرة، وأنهم لا يشكون في رؤيتهم، كما لا يشك أهل الدنيا في رؤية الشمس، وهذا فإنما ضربه النبي - صلى الله عليه وسلم - مثلًا للرؤية؛ إذ الله -سبحانه وتعالى- لأجَل من أن يشبه بالشمس أو القمر، إنما ضرب ذلك مثلًا لإيضاح الرؤية بالرؤية، لا المرئي بالمرئي.
وقوله: (ليس دونه سحاب) يعني: أن الله سبحانه يتجلى لعباده المؤمنين تجليًا يوقع فيه بينه وبينهم كل حجاب.
وأما قصة الجوشن: فلا نعلمها تصح، بل الظاهر: أنها منكرة؛ ففي المسند، وسنن أبي داود، وغيرهما عن السائب بن يزيد: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ظاهر بين درعين يوم أحد" صححه الألباني. قال السندي: قوله: "ظاهر بين درعين" أي: أوقع الظهار بينهما، بأن جعل أحدهما ظهارا للأخرى، أو الظهار بمعنى: المعاونة، والمراد أنه لبسهما، وفيه أن التوكل لا يقتضي ترك مراعاة الأسباب.
ولا نعلم مضمون هذا الحرز، وفي الاشتغال بالأذكار الثابتة، والأدعية المأثورة كفاية، وانظر الفتوى رقم: 113189.
وقد أفتت اللجنة الدائمة بتحريم اتخاذ حرز الجوشن حرزا، فانظر الفتوى رقم: 255724 .
والله أعلم.