الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالنية هي مبدأ كل عمل وأصله، ولا تكون الطاعة مثابا عليها إلا أن تتقدمها النية؛ لقوله صلوات الله عليه: إنما الأعمال بالنيات، ولا تفتقر تلك النية إلى نية، وإلا للزم التسلسل، قال أبو العباس البسيلي ـ رحمه الله ـ: "يُسْتثنى من حديث: "إِنَّمَا الأعمالُ بالنِّيات"، النية فلا تفْتَقِرُ إلى نية، لما يلزمُ على افتقارِ النية من التسلسل، وقال عزُّ الدين: إنما لم تفتقر النية إلى نية؛ لأنها متميزة بذاتها، وكذا جميعُ الأعمال المتميِّزة بذاتها لا تفتقر إلى نية، بخلاف السجود، فإنه قد يكونُ للصنم وللشمس، فيحتاجُ إلى نيةِ كونِه للَّه تعالى، والغسل يكون تنظُّفاً ويكون للَّه، فيحتاج إلى نية تميزه. انتهى بتصرف يسير.
وأما أن السلف كانوا يجمعون للعمل أكثر من سبعين نية ففي هذا نوع مبالغة، على أن تعدد النيات الصالحة في العمل الواحد مما يضاعف به الثواب ويزيد به الأجر، ونبين لك هذا المعنى مختصرين كلاما لأبي حامد الغزالي ـ رحمه الله ـ أوضح فيه هذا المقصد أتم إيضاح، قال عليه الرحمة: وَأَمَّا تَضَاعُفُ الْفَضْلِ فَبِكَثْرَةِ النِّيَّاتِ الْحَسَنَةِ، فَإِنَّ الطَّاعَةَ الْوَاحِدَةَ يُمْكِنُ أَنْ يَنْوِيَ بِهَا خَيْرَاتٍ كَثِيرَةً فَيَكُونُ لَهُ بِكُلِّ نِيَّةٍ ثَوَابٌ إِذْ كل واحدة منها حسنة ثم تضاعف كل حسنة عشر أمثالها كما ورد به الخبر، وَمِثَالُهُ الْقُعُودُ فِي الْمَسْجِدِ فَإِنَّهُ طَاعَةٌ وَيُمْكِنُ أَنْ يَنْوِيَ فِيهِ نِيَّاتٍ كَثِيرَةً حَتَّى يَصِيرَ من فضائل أعمال المتقين، ويبلغ به درجات المقربين، أَوَّلُهَا: أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ بَيْتُ اللَّهِ وَأَنَّ داخله زائر الله فيقصد به زيارة مولاه... وثانيها: أَنْ يَنْتَظِرَ الصَّلَاةَ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَيَكُونَ فِي جملة انتظاره في الصلاة وهو معنى قوله تعالى {ورابطوا} وثالثها: التَّرَهُّبُ بِكَفِّ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْأَعْضَاءِ عَنِ الْحَرَكَاتِ والترددات فإن الاعتكاف كف وهو في معنى الصوم... ورابعها: عُكُوفُ الْهَمِّ عَلَى اللَّهِ، وَلُزُومُ السِّرِّ لِلْفِكْرِ فِي الْآخِرَةِ، وَدَفْعُ الشَّوَاغِلِ الصَّارِفَةِ عَنْهُ بِالِاعْتِزَالِ إلى المسجد، وخامسها: التَّجَرُّدُ لِذِكْرِ اللَّهِ أَوْ لِاسْتِمَاعِ ذِكْرِهِ وَلِلتَّذَكُّرِ به... وسادسها: أَنْ يَقْصِدَ إِفَادَةَ الْعِلْمِ بِأَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ وَنَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ؛ إِذِ الْمَسْجِدُ لَا يَخْلُو عَمَّنْ يسيء في صلاته، أو يتعاطى مالا يَحِلُّ لَهُ فَيَأْمُرُهُ بِالْمَعْرُوفِ وَيُرْشِدُهُ إِلَى الدِّينِ، فَيَكُونُ شَرِيكًا مَعَهُ فِي خَيْرِهِ الَّذِي يَعْلَمُ منه فتتضاعف خيراته، وسابعها: أَنْ يَسْتَفِيدَ أَخًا فِي اللَّهِ فَإِنَّ ذَلِكَ غَنِيمَةٌ وَذَخِيرَةٌ لِلدَّارِ الْآخِرَةِ، وَالْمَسْجِدُ مُعَشَّشُ أَهْلِ الدين المحبين لله وفي الله، وثامنها: أَنْ يَتْرُكَ الذُّنُوبَ حَيَاءً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَحَيَاءً مِنْ أَنْ يَتَعَاطَى فِي بَيْتِ اللَّهِ ما يقتضي هتك الحرمة، وقد قَالَ الحسن بن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: من أدمن الاختلاف إلى المسجد رزقه الله إحدى سبع خصال أخاً مستفاداً في الله، أو رحمة مستنزلة، أو علماً مستظرفاً، أو كلمة تدل على هدى أو تصرفه عن ردى، أو يترك الذنوب خشية أو حياء، فَهَذَا طَرِيقُ تَكْثِيرِ النِّيَّاتِ، وَقِسْ بِهِ سَائِرَ الطاعات. انتهى، وله تتمة حسنة تنظر منه لمن شاء.
والله أعلم.