الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن والاه, أما بعد:
فسرد الصيام يوميًّا مع إفطار الأيام المنهي عن صيامها كيومي العيد وأيام التشريق, لا بأس به في قول كثير من الفقهاء, وأما صيام كل الأيام حتى الأيام المنهي عن صيامها, فهذا لا يجوز. وانظر التفصيل في الفتوى رقم: 23939.
وقولك: كيف الموازنة بينهما، إن كنت تعني: الجمع بين حديث: (يا معشر الشباب ...) وبين قصة من يصوم ولا يفطر, فاعلم أن حديث: (يا معشر الشباب) ليس فيه بيان مشروعية سرد الصيام، وأما قصة من يصوم ولا يفطر فلعلك تعني بها: حديث أنس بن مالك - رضى الله عنه - يقول: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما أخبروا كأنهم تقالوها! فقالوا: وأين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم: أما أنا: فإني أصلى الليل أبدا. وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا. فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد, وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» رواه البخاري، أو تعني: حديث عبد الله بن عمرو فقد جاء فيه أنه كان يسرد الصوم: "بَلَغَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنِّي أَسْرُدُ الصَّوْمَ" كما في البخاري، وفي بعضها: "قُلْتُ: إِنِّي أَصُومُ وَلَا أُفْطِرُ. قَالَ: فَقَالَ لِي: صُمْ وَأَفْطِرْ" كما في مسند أحمد، وحمله العلماء على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- علم أنه سيضعف عن الصيام، واستدلوا على جواز سرد الصيام بحديث حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيَّ: سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, إِنِّي رَجُلٌ أَسْرُدُ الصَّوْمَ، أَفَأَصُومُ فِي السَّفَرِ؟ قَالَ: صُمْ إِنْ شِئْتَ, وَأَفْطِرْ إِنْ شِئْتَ. رواه الشيخان. قال النووي -رحمه الله تعالى-:
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِيهِ؛ فَذَهَبَ أَهْل الظَّاهِر إِلَى مَنْع صِيَام الدَّهْر, نَظَرًا لِظَوَاهِر هَذِهِ الْأَحَادِيث، قَالَ الْقَاضِي, وَغَيْره: وَذَهَبَ جَمَاهِير الْعُلَمَاء إِلَى جَوَازه إِذَا لَمْ يَصُمْ الْأَيَّام الْمَنْهِيَّ عَنْهَا وَهِيَ الْعِيدَانِ وَالتَّشْرِيق، وَمَذْهَب الشَّافِعِيّ, وَأَصْحَابه: أَنَّ سَرْد الصِّيَام إِذَا أَفْطَرَ الْعِيدَيْنِ وَالتَّشْرِيق لَا كَرَاهَة فِيهِ، بَلْ هُوَ مُسْتَحَبّ بِشَرْطِ أَلَّا يَلْحَقَهُ بِهِ ضَرَرٌ، وَلَا يُفَوِّتَ حَقًّا، فَإِنْ تَضَرَّرَ أَوْ فَوَّتَ حَقًّا فَمَكْرُوه، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ حَمْزَة بْن عَمْرو، وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم أَنَّهُ قَالَ: "يَا رَسُول اللَّه, إِنِّي أَسْرُدُ الصَّوْمَ, أَفَأَصُومُ فِي السَّفَرِ؟ فَقَالَ: إِنْ شِئْت فَصُمْ". وَلَفْظ رِوَايَة مُسْلِم: فَأَقَرَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَرْد الصِّيَام، وَلَوْ كَانَ مَكْرُوهًا لَمْ يُقِرَّهُ، لَا سِيَّمَا فِي السَّفَر، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ اِبْن عُمَر بن الْخَطَّاب أَنَّهُ كَانَ يَسْرُد الصِّيَام، وَكَذَلِكَ أَبُو طَلْحَة, وَعَائِشَة, وَخَلَائِق مِنْ السَّلَف، قَدْ ذَكَرْت مِنْهُمْ جَمَاعَة فِي شَرْح الْمُهَذَّب فِي بَاب صَوْم التَّطَوُّع، وَأَجَابُوا عَنْ حَدِيث: (لَا صَامَ مَنْ صَامَ الْأَبَد) بِأَجْوِبَةٍ: أَحَدهَا: أَنَّهُ مَحْمُول عَلَى حَقِيقَته بِأَنْ يَصُوم مَعَهُ الْعِيدَيْنِ وَالتَّشْرِيق، وَبِهَذَا أَجَابَتْ عَائِشَة -رَضِيَ اللَّه عَنْهَا-. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَحْمُول عَلَى مَنْ تَضَرَّرَ بِهِ أَوْ فَوَّتَ بِهِ حَقًّا، وَيُؤَيِّدهُ أَنَّ النَّهْي كَانَ خِطَابًا لِعَبْدِ اللَّه بْن عَمْرو بْن الْعَاصِ، وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِم عَنْهُ أَنَّهُ عَجَزَ فِي آخِر عُمُرِهِ, وَنَدِمَ عَلَى كَوْنه لَمْ يَقْبَل الرُّخْصَة، قَالُوا: فَنَهْي اِبْنِ عَمْرٍو كَانَ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ سَيَعْجِزُ, وَأَقَرَّ حَمْزَة بْن عَمْرو لِعِلْمِهِ بِقُدْرَتِهِ بِلَا ضَرَرٍ. اهــ.
وانظر الفتوى رقم: 212974 عن تأديب النفس على التفريط بالتزام عبادة معينة.. رؤية شرعية.
وحديث: "يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ, فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ وَمَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ وَمَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟" هو حديث صحيح رواه الشيخان، وأما كيفية حساب ثلث الليل: فهذا يمكن معرفته بحيث يقسم الليل من غروب الشمس إلى طلوع الفجر ثلاثة أقسام في المكان الذي تقيم فيه, لا على حساب توقيت مكة، فإذا مضى القسمان الأولان وهما ثلثا الليل, فإن القسم الثالث هو الثلث الأخير، فمثلا: إذا كان طول الليل من غروب الشمس إلى طلوع الفجر اثنتي عشر ساعة, فثلث الليل الآخر أربع ساعات قبل الفجر, وإذا كان الليل من غروب الشمس إلى طلوع الفجر تسع ساعات, فثلث الليل الأخير ما قبل الفجر بثلاث ساعات.
وأما هل يتصدق من عليه دين؟ قال الشيخ/ ابن عثيمين -رحمه الله تعالى-:
إذا كان الدين يستغرق جميع ما عنده, فإنه ليس من الحكمة, ولا من العقل أن يتصدق ـ والصدقة مندوبة, وليست بواجبة ـ ويدع دينا واجبا عليه، فليبدأ أولا بالواجب, ثم يتصدق. وقد اختلف أهل العلم فيما إذا تصدق وعليه دين يستغرق جميع ماله؛ فمنهم من يقول: إن ذلك لا يجوز له؛ لأنه إضرار بغريمه، وإبقاء لشغل ذمته بهذا الدين الواجب. ومنهم من قال: إنه يجوز، ولكنه خلاف الأولى، وعلى كل حال؛ فلا ينبغي للإنسان الذي عليه دين يستغرق جميع ما عنده أن يتصدق حتى يوفي الدين؛ لأن الواجب مقدم على التطوع ... اهــ.
وفي فتاوى ابن الصلاح -رحمه الله تعالى-: مسألة: سئل رضي الله عنه: إذا كان عليه دين يزيد على يساره, هل يجوز أن يتصدق تطوعا فيه؟ فقال: يجوز, والأولى أن لا يفعل, ويصرف المال إلى دينه؛ لأن أداءه واجب عليه. وفي المهذب أنه لا يجوز. اهــ.
وقال المرداوي الحنبلي في الإنصاف نقلًا عن الإمام أحمد: وَسَأَلَهُ جَعْفَرٌ: من عليه دَيْنٌ يَتَصَدَّقُ بِشَيْءٍ؟ قال: الشَّيْءِ الْيَسِيرِ, وَقَضَاءُ دَيْنِهِ أَوْجَبُ عليه. قُلْت: وَهَذَا الْقَوْلُ هو الصَّوَابُ. اهــ.
والله تعالى أعلم.