الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فهذا الكلام ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية خلال شرحه لما نقله عن ابن النحاس أنه رأى الشيخ عبد القادر في منامه وهو يقول إخبارا عن الحق تعالى: "من جاءنا تلقيناه من البعيد، ومن تصرف بحولنا ألنا له الحديد، ومن اتبع مرادنا أردنا ما يريد، ومن ترك من أجلنا أعطيناه فوق المزيد".
فقال شيخ الإسلام: هذا من جهة الرب تبارك وتعالى، فالأوليان: العبادة والاستعانة، والأخريان: الطاعة والمعصية، فالذهاب إلى الله هي عبادته وحده، و(التصرف) بحوله هو الاستعانة والتوكل عليه، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله. وفي الأثر: {من سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله} ... اهـ.
فظهر بهذه المقدمة: أن استعانة العبد بالله تعالى وصدق توكله عليه، لها أثر في تيسير الأمور وتصريفها على مراد العبد، شأنها في ذلك شأن سائر الأسباب الشرعية في جلب النفع ودفع الضر بإذن الله تعالى، كالدعاء، والذكر، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والصدقة، والسعي في حاجات الناس، ومعاملتهم بخلق حسن، وغيرها.
فليس المراد بذلك أن يكون للعبد تصريف ذاتي في الكون، وإنما المراد أن الله تعالى جعل التوكل عليه سببا لقوة العبد وتأثيره، مجازاةً له بما يناسب حاله، فالافتقار لله تعالى وإظهار الضعف والمسكنة له سبحانه، والتوكل عليه والاستعانة به، تفتح للعبد المغاليق، وتهون عليه المشاقَّ، وتيسر له العسير، وتقرب له البعيد. قال ابن القيم في (زاد المعاد): القوة كل القوة في التوكل على الله، كما قال بعض السلف: "من سره أن يكون أقوى الناس، فليتوكل على الله" فالقوة مضمونة للمتوكل، والكفاية والحسب والدفع عنه، وإنما ينقص عليه من ذلك بقدر ما ينقص من التقوى والتوكل، وإلا فمع تحققه بهما، لا بد أن يجعل الله له مخرجا من كل ما ضاق على الناس، ويكون الله حسبه وكافيه. اهـ. وراجع الفتوى رقم: 124092.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ رسالة مفيدة في تحقيق معنى التوكل، فيها بيان حسن لهذه المسألة ومذاهب الناس فيها، ومما قاله فيها ـ رحمه الله ـ: الذي عليه الجمهور أن المتوكل يحصل له بتوكله من جلب المنفعة ودفع المضرة ما لا يحصل لغيره، وكذلك الداعي، والقرآن يدل على ذلك في مواضع كثيرة ... اهـ.
وهنا يحسن أن ننبه على أن تصرف العبد بحول الله تعالى وقوته، يكون بالتوكل عليه والاستعانة به، ويحصل به تيسير الأمور وتصريفها بإذن الله تعالى ومشيئته وفضله ومعونته، فلا يلزم أن يقع أثرها معها أو عقيبها، بل تجري الأمور على ما اقتضته حكمة الله، وجرى به قدره، قال ابن القيم في (إعلام الموقعين): قوله تعالى {ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا} [الطلاق: 3] لما ذكر كفايته للمتوكل عليه فربما أوهم ذلك تعجيل الكفاية وقت التوكل، فعقبه بقوله: {قد جعل الله لكل شيء قدرا} أي وقتا لا يتعداه فهو يسوقه إلى وقته الذي قدره له، فلا يستعجل المتوكل ويقول: قد توكلت ودعوت، فلم أر شيئا، ولم تحصل لي الكفاية! فالله بالغ أمره في وقته الذي قدره له. اهـ.
والله أعلم.