الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد ذم الله تعالى من فرق بين آيات القرآن، فقبل بعضها ورد بعضها، وآمن ببعض الكتاب وكفر ببعض، وتوعدهم بوعيد شديد فقال: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة: 85].
وقال عز وجل: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ. فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر: 93:91]. قال الراغب في (المفردات): {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} أي: مفرقا، فقالوا: كهانة، وقالوا: أساطير الأولين إلى غير ذلك مما وصفوه به. وقيل: معنى عضين: ما قال تعالى: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض} خلاف من قال فيه: {وتؤمنون بالكتاب كله} [آل عمران/ 119]. اهـ.
وقال الأستاذ الدكتور/ صلاح الخالدي في كتابه (تصويبات في فهم بعض الآيات): ونحن نختار المعنى الثاني؛ لأنه هو الأنسب للسياق، والأكثر اتفاقا مع فهم القرآن والتعامل معه. بل هذا القول هو المتفق مع فهم الصحابة للآية، فقد روى البخاري وجماعةٌ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "الذين جعلوا القرآن عضين: هم أهل الكتاب، جَزَّأوه أجزاء، فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه". فإذا كانت الآية تنكر على أهل الكتاب تجزئتهم للقرآن، حيث آمنوا ببعض وكفروا ببعض، وترفض منهم هذا التقسيم المرفوض، فإنها تتوجه إلى كل من فعل ذلك، لتنكر عليه فهمه الخاطئ لآيات القرآن، وتحريفه لمفاهيمها، وتشويهه لمعانيها، وتوظيفه لهذه الآيات كي تشهد لرأيه الفاسد، وتنصر فكره الباطل، وتدعم تلاعبه بدين الله, وأحكامه, وتشريعاته. اهـ.
ومن المسالك المضلة والطرق المهلكة أن يرجع العبد للقرآن ليأخذ منه ما يوافق هواه، وأما ما خالفه فإنه يحرفه عن موضعه، فيسوقه القرآن إلى النار. بخلاف من جعل القرآن أمامه فقاده إلى الجنة، كما هو حال أهل الإيمان من أهل السنة أتباع الصحابة، فهم كما وصفهم ابن القيم في (إعلام الموقعين) حيث قال: لم يفعلوا كما فعل أهل الأهواء والبدع، حيث جعلوها عضين، وأقروا ببعضها وأنكروا بعضها من غير فرقان مبين. اهـ.
وقال الشيخ/ الغنيمان في (شرح فتح المجيد): ومن المعلوم أن أصحاب البدع والأهواء يتعلقون بالشبهات، ويفرحون إذا وجدوا شيئا يتعلقون به من القرآن أو من الأحاديث، ومن الأمور التي ينبغي أن تعلم: أن القرآن فيه شيء مما قد يشتبه في اللفظ للدلالة، وإذا صار الإنسان عنده سوء فهم أو سوء اتجاه يكون فتنة له، وهذا الذي يشير إليه قوله جل وعلا: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران:7] فهم يبحثون عن الشيء الذي يتفق مع أهوائهم، ومع مناهجهم ومقاصدهم، بغض النظر عن مراد المتكلم، ولو كانوا يريدون مراد المتكلم لكان الأمر واضحا جليا؛ لأن هناك آيات واضحات تبين هذا، إذا أرجعت إليها زال الإشكال نهائيا. والواجب على العبد أن يتخلى من هوى النفس، ومن الأغراض التي تكون على خلاف مراد الرب -جل وعلا- أو مراد رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ومعلوم أن هذا يحتاج إلى مجاهدة، ويحتاج إلى توفيق من الله -جل وعلا-، والإنسان قد لا يملك نفسه {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [المائدة:41] إلا أنه إذا فعل الإنسان الأسباب التي أمر بها فغالبا أن الله يوفقه، بخلاف الذي يعرض عن أمر الله من أول وهلة اتباعا لشيء يريده، إما يريد علوا على الخلق، يريد أن يكون هو أفضل منهم وأعلى منهم، أو كان له أغراض دنيوية، أو عنده حسد وحقد على الآخرين؛ فهذا غالبا لا يوفق، ويزداد ضلالا إلى ضلاله إلا أن يشاء الله، ولهذا يقول الله -جل وعلا-: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5]، ويقول تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:110]. اهـ.
وأما التعامل من أمثال هؤلاء: فيكون على مقتضى قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: الدين النصيحة ... لله, ولكتابه, ولرسوله, ولأئمة المسلمين وعامتهم. رواه مسلم. فمن النصيحة لكتاب الله تعالى: الدعوة إلى منهجه، وامتثال جميع أحكامه، والعمل بكل آياته، والذب عنه في مواجهة المناهج المنحرفة. ومن النصحية للمسلمين: تحذيرهم من طرق الغواية, وأسباب الضلال والانحراف، وتعريفهم سبيل المجرمين ليتجنبوها. وراجع في هذا الحديث الفتويين: 3058، 214522.
والله أعلم.