الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإنه لا يجوز لأخي القتيل أن يقتص بنفسه من القاتل، بل يرفع أمره للسلطات، وإن قتله فهو آثم، قال القرطبي في تفسيره: لا خلاف أن القصاص في القتل لا يقيمه إلا أولو الأمر الذين فرض عليهم النهوض بالقصاص، وإقامة الحدود، وغير ذلك؛ لأن الله سبحانه خاطب جميع المؤمنين بالقصاص، ثم لا يتهيأ للمؤمنين جميعا أن يجتمعوا على القصاص، فأقاموا السلطان مقام أنفسهم في إقامة القصاص، وغيره من الحدود. انتهى.
ولا يجوز قتل القاتل إلا بعد اتفاق أولياء المقتول على القصاص، ولا يجوز رجوع أحد منهم بعد الاتفاق والتصالح على عدم القتل؛ فقد قال ابن مفلح في الفروع: الشرط الثاني ( يعني: الثاني من شروط استيفاء القصاص) اتفاق المشتركين فيه على استيفائه, وينتظر قدوم غائب، وبلوغ، وإفاقة ... ويسقط القود بعفو شريك عنه, وبشهادته ولو مع فسقه بعفوه، لكونه أقر بأن نصيبه سقط من القود, وحق الباقين من الدية على الجاني. وفي التبصرة: إن عفا أحدهم فللبقية الدية, وهل يلزمه حقهم من الدية؟ فيه روايتان, وإن قتلوه عالمين بالعفو، وبسقوط القود به، لزمهم القود، وإلا الدية, وإن قتله العافي قتل ولو ادعى نسيانه أو جوازه. اهـ.
وقال الصاوي في بلغة السالك: إذا كان القائم بالدم رجالا فقط مستوين في الدرجة والاستحقاق, فإن اجتمعوا كلهم على القصاص وجب, وإن طلب بعضهم القصاص، وبعضهم العفو، فالقول لطالب العفو، ويسقط القصاص، ولمن لم يعف نصيبه من دية عمد. اهـ.
وقال ابن قدامة في المغني: القصاص حق لجميع الورثة من ذوي الأنساب والأسباب, والرجال والنساء, والصغار والكبار, فمن عفا منهم صح عفوه, وسقط القصاص, ولم يبق لأحد إليه سبيل. هذا قول أكثر أهل العلم; منهم: عطاء, والنخعي, والحكم, وحماد, والثوري, وأبو حنيفة, والشافعي. وروي معنى ذلك عن عمر, وطاووس, والشعبي. وقال الحسن, وقتادة, والزهري, وابن شبرمة, والليث, والأوزاعي: ليس للنساء عفو, والمشهور عن مالك: أنه موروث للعصبات خاصة. وهو وجه لأصحاب الشافعي; لأنه ثبت لدفع العار، فاختص به العصبات، كولاية النكاح. ولهم وجه ثالث: أنه لذوي الأنساب دون الزوجين; لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: { من قتل له قتيل, فأهله بين خيرتين; بين أن يقتلوا أو يأخذوا العقل }. وأهله ذوو رحمه. وذهب بعض أهل المدينة إلى أن القصاص لا يسقط بعفو بعض الشركاء, وقيل: هو رواية عن مالك; لأن حق غير العافي لا يرضى بإسقاطه, وقد تؤخذ النفس ببعض النفس, بدليل قتل الجماعة بالواحد. ولنا: عموم قوله عليه السلام: " فأهله بين خيرتين ". وهذا عام في جميع أهله, والمرأة من أهله, بدليل قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: { من يعذرني من رجل يبلغني أذاه في أهلي, وما علمت على أهلي إلا خيرا, ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا, وما كان يدخل على أهلي إلا معي -يريد عائشة- وقال له أسامة: يا رسول الله, أهلك ولا نعلم إلا خيرا }. وروى زيد بن وهب أن عمر أتي برجل قتل قتيلا, فجاء ورثة المقتول ليقتلوه, فقالت امرأة المقتول, وهي أخت القاتل: قد عفوت عن حقي. فقال عمر: الله أكبر, عتق القتيل. رواه أبو داود. وفي رواية عن زيد, قال: دخل رجل على امرأته, فوجد عندها رجلا, فقتلها, فاستعدى إخوتها عمر, فقال بعض إخوتها: قد تصدقت. فقضى لسائرهم بالدية. وروى قتادة أن عمر رفع إليه رجل قتل رجلا, فجاء أولاد المقتول, وقد عفا بعضهم, فقال عمر لابن مسعود: ما تقول؟ قال: إنه قد أحرز من القتل. فضرب على كتفه, وقال: كنيف ملئ علما. والدليل على أن القصاص لجميع الورثة: ما ذكرناه في مسألة القصاص بين الصغير والكبير, ولأن من ورث الدية ورث القصاص كالعصبة, فإذا عفا بعضهم, صح عفوه, كعفوه عن سائر حقوقه, وزوال الزوجية لا يمنع استحقاق القصاص, كما لم يمنع استحقاق الدية, وسائر حقوقه الموروثة. ومتى ثبت أنه حق مشترك بين جميعهم, سقط بإسقاط من كان من أهل الإسقاط منهم; لأن حقه منه له, فينفذ تصرفه فيه, فإذا سقط سقط جميعه; لأنه مما لا يتبعض, كالطلاق والعتاق, ولأن القصاص حق مشترك بينهم لا يتبعض, مبناه على الدرء والإسقاط, فإذا أسقط بعضهم, سرى إلى الباقي كالعتق, والمرأة أحد المستحقين, فسقط بإسقاطها كالرجل. ومتى عفا أحدهم, فللباقين حقهم من الدية سواء عفا مطلقا أو إلى الدية. وبهذا قال أبو حنيفة, والشافعي. ولا أعلم لهما مخالفا ممن قال بسقوط القصاص; وذلك لأن حقه من القصاص سقط بغير رضاه, فثبت له البدل كما لو ورث القاتل بعض دمه أو مات, ولما ذكرنا من خبر عمر -رضي الله عنه-. اهـ.
والله أعلم.