الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالدلك ليس من واجبات الوضوء أو الغسل على الصحيح -الذي هو قول الجمهور- خلافًا للمالكية، قال الشيخ/ محمد بن محمد المختار الشنقيطي في شرحه على زاد المستقنع: والدلك للعلماء فيه قولان: القول الأول: أن الدّلك مستحب، وليس بواجب، وهو مذهب الجمهور -رحمهم الله-. القول الثاني: أنّ الدَّلكَ واجب، ومن اغتسل ولم يدلك بدنه لم يصحّ غسلُه، وهو مذهب المالكية -رحمهم الله-. والذي يترجح في نظري -والعلم عند الله- هو القول بأن: الدّلك مستحب، وليس بواجب. أما الدليل على عدم الوجوب فما ثبت في الصحيحين من حديث أمِّ سلمة -رضي الله عنها- أنّ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال لها: [إِنما يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثي عَلى رَأسِكِ ثَلاثَ حَثَياتٍ] فقوله: [إنما يَكْفِيكِ] أي: يجزيك، وهذا الإجزاء لا يكون إلا في الواجبات، قال عليه الصلاة والسلام: [إِنما يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثي عَلى رَأسكِ ثَلاثَ حَثَياتٍ، ثُمَّ تُفِيضينَ الماءَ على جَسَدِكِ فإِذا أَنتِ قَدْ طَهُرتِ -وفي رواية: فإذا أَنتِ تَطْهُرينَ-] وجه الدلالة: أنّ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمرها بالتَّعميم، ولم يُبيّن لها وجوبَ الدّلك، وقال: [تُفِيضِينَ] والإفاضة: الصبّ فدلّ على أن الواجب: هو وصول الماء إلى ظاهر الجسد لقوله: [تُفِيضِينَ الماءَ عَلى جَسَدِكِ]، فإذا حصلت هذه الإفاضة حكمنا بالإجزاء، دون اشتراط أمرٍ زائدٍ عليها، وهو الدَّلْكُ. انتهى.
فإذا علمت هذا؛ فالذي فهمناه من سؤالك هو الاستفسار عن الدلك هل يشترط أن يكون مع صب الماء أو يجوز بعد صب الماء؟ وأنك فهمت من موقعنا اشتراط الدلك مع صب الماء، وأنه بعده لا يجزئ، وليس هذا صحيحا، والذي نحب أن نبينه لك أن مجرد صب الماء على العضو حتى يعم جميعه يحصل به الإجزاء، ويتأدى به الواجب، وعلى القول بوجوب الدلك: فكلا الصورتين المذكورتين يحصل بهما الدلك الواجب عند كثير ممن يقول بوجوبه، فإن من قالوا بوجوب الدلك اختلفوا هل يشترط مقارنته لصب الماء أو لا يشترط ذلك؟ والراجح عندهم عدم اشتراط مقارنته لصب الماء, بل يكفي حصول الدلك عقب الصب، وعليه؛ فسواء دلك المتوضئ وجهه عند صب الماء كما في الصورة الأولى أو بعد صبه كما في الصورة الثانية ما لم يجف العضو، وتفصيل مذهب المالكية والخلاف فيه في هذه المسألة قد أوضحه الحطاب في مواهب الجليل بقوله: (فَرْعٌ) وَأَمَّا مُقَارَنَةُ الدَّلْكِ لِصَبِّ الْمَاءِ: فَلَا شَكَّ أَنَّهُ الْأَكْمَلُ، وَاخْتُلِفَ فِي اشْتِرَاطِ ذَلِكَ فَقِيلَ: يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ مُقَارِنًا لِصَبِّ الْمَاءِ, وَلَا يَكْفِي إذَا كَانَ عَقِبَ الصَّبِّ،... وهذا مذهب الْقَابِسِيِّ خِلَافَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ أَنَّهُ يَكْفِي كَوْنُهُ عَقِبَ صَبِّ الْمَاءِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِلُزُومِ الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ بِذَلِكَ... قال ابْنُ الْحَاجِبِ فِي بَابِ الْغُسْلِ: إنَّهُ الْأَصَحُّ. فَقَالَ: وَلَوْ تَدَلَّكَ عَقِيبَ الِانْغِمَاسِ أَوْ الصَّبِّ أَجْزَأَهُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقَالَ الْفَاكِهَانِيُّ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ فِي بَابِ الْغُسْلِ: الدَّلْكُ إمْرَارُ الْيَدِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا مَعَ الْمَاءِ, وَفِي اشْتِرَاطِ مُقَارَنَتِهِ لِصَبِّ الْمَاءِ قَوْلَانِ؛ أَظْهَرُهُمَا: عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْمُقَارَنَةِ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَهَا يُؤَدِّي إلَى مَشَقَّةٍ، وَلِأَنَّ الْمَاءَ إذَا صُبَّ عَلَى الْجَسَدِ يَبْقَى زَمَانًا فَإِذَا تَدَلَّكَ عَقِبَ الصَّبِّ وَالْمَاءُ يَسِيلُ عَلَى جَسَدِهِ كَانَ كَمَنْ تَدَلُّكَ مَعَ صَبِّ الْمَاءِ، وَقَالَ سَيِّدِي الشَّيْخُ زَرُّوق فِي شَرْحِ قَوْلِ الرِّسَالَةِ: وَيَعْرُكُهَا بِيَدِهِ الْيُسْرَى. وَالْعَرْكُ: الدَّلْكُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِالْإِفَاضَةِ فِي كُلِّ مَغْسُولٍ؛ لِأَنَّهُ أَبْرَأُ مِنْ الْخِلَافِ، وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُورُ جَوَازَ التَّعَقُّبِ مَعَ الِاتِّصَالِ، وَقَالَ فِي شَرْحِ الْإِرْشَادِ: الْفَرْضُ السَّابِعُ مِنْ فَرَائِضِ الْوُضُوءِ، وَالدَّلْك وَحَقِيقَته: إمْرَارُ الْيَدِ مَعَ الْمَاءِ عَلَى قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَعَلَى أَثَرِهِ عَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي زَيْدٍ وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَذَكَرَ ابْنُ عَرَفَةَ فِي الْكَلَامِ عَلَى غَسْلِ الْوَجْهِ عَنْ الْبَاجِيِّ نَحْوَ قَوْلِ الْقَابِسِيِّ وَنَصُّهُ: شُرِطَ إمْرَارُ الْيَدِ عَلَى الْعُضْوِ قَبْلَ ذَهَابِ الْمَاءِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَهُ مَسْحٌ. انتهى بتصرف.
وبهذا التقرير يتضح لك عدم ظهور الإشكال في سؤالك، وأن الدلك في الصورتين مجزئ على القول بوجوبه. والله أعلم.