الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فالاستقراء إن كان تاما، فهو حجة قطعية اتفاقا، وإن كان ناقصا فهو حجة ظنية على الراجح؛ ودليله هو غلبة الظن بكون حكم الجزئي المسكوت عنه، هو هو حكم الأغلب الأعم، مما يدخل معه تحت نوع واحد.
قال الغزالي في (المستصفى): لأنه مهما وجد الأكثر على نمط، غلب على الظن أن الآخر كذلك. اهـ.
ولذلك يسميه الفقهاء بالأعم الأغلب.
قال الزركشي في (البحر المحيط): الاستقراء الناقص: إثبات الحكم في كلي، لثبوته في أكثر جزئياته، من غير احتياج إلى جامع. وهو المسمى في اصطلاح الفقهاء ب (الأعم الأغلب) . وهذا النوع اختلف فيه، والأصح أنه يفيد الظن الغالب، ولا يفيد القطع. اهـ.
وقال المرداوي في (التحبير شرح التحرير): ربما استدل على ذلك بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "نحن نحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر". كما استدل به البيضاوي وغيره. لكنه حديث لا يعرف، لكن رواه الحافظ أبو طاهر إسماعيل بن علي بن إبراهيم بن أبي القاسم الجنزوي في كتابه: " إدارة الأحكام " في قصة الكندي، والحضرمي اللذين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأصل حديثهما في الصحيحين، فقال المقضي عليه: قضيت علي، والحق لي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما نقضي بالظاهر، والله يتولى السرائر". وله شواهد، منها حديث المتلاعنين: "لولا ما في كتاب الله، لكان لي ولها شأن". وفي الصحيح من حديث أم سلمة: "إنما أنا بشر، وإنه يأتيني الخصم، فلعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فأحسب أنه صدق، فأقضي له بذلك، فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار فليأخذها، أو ليتركها". وفي الصحيحين: "إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أشق بطونهم". وقول عمر: "إن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا". وغير ذلك، وهو كثير، مما يدل على أن العمل بالظن واجب.
تنبيه: ينشأ مما قررناه في الاستقراء، أن القياسات المنطقية تدور على ذلك، فإنا إذا قلنا: العالم متغير، وكل متغير حادث، فيكون العالم متغيرا، إنما علم بالاستقراء التام، ولذلك أفاد القطع واليقين. وإذا قلنا: الوضوء وسيلة للعبادة، وكل ما هو وسيلة للعبادة عبادة، إنما أثبتنا المقدمة الثانية بالاستقراء، وهو ظني؛ لأنه من أكثر الجزئيات. اهـ.
وقال الأستاذ الدكتور عبد الكريم النملة في (المهذب في علم أصول الفقه المقارن): الاستقراء نوعان:
النوع الأول: استقراء تام، وهو: ثبوت الحكم في كلية بواسطة إثباته بالتتبع، والتصفح بجميع الجزئيات ما عدا صورة النزاع.
النوع الثاني: استقراء ناقص، وهو: ثبوت الحكم في كلية، بواسطة إثباته بالتتبع، والتصفح لأكثر الجزئيات ما عدا صورة النزاع.
حجيته: النوع الأول من نوعي الاستقراء، وهو الاستقراء التام، اتفق العلماء على حجيته؛ لكونه يفيد القطع؛ حيث إنه ثبت عن طريق استقراء جميع الجزئيات.
وأما النوع الثاني - وهو: الاستقراء الناقص - فقد اختلف العلماء في حجيته على مذهبين:
المذهب الأول: أنه حُجَّة، أي: أن الاستقراء الناقص يفيد الحكم ظنا. وهو مذهب الجمهور، وهو الحق؛ لأن تصفح، وتتبع أكثر الجزئيات مع تماثلها في الأحكام، يوجد ظنا غالبا بأن حكم ما بقي من الجزئيات - وهو قليل - كذلك؛ حيث إنه معلوم: أن القليل يلحق بالكثير الغالب، والعمل بالظن الغالب واجب، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "نحن نحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر". وهذا وإن كان واردأ في صيغة الخبر، لكن المراد به الأمر، فالحديث أثبت أن العبرة بالظاهر، والظاهر هو: أن حكم الباقي الذي لم يتتبع، ولم يستقرأ، كحكم غيره مما تتبع واستقرئ، وعلى هذا يجب اعتبار الاستقراء حُجَّة عملاً بهذا الظاهر، فكان حجة يجب العمل به. وانما قلنا: إن الاستقراء الناقص يفيد الحكم ظنا، ولا يفيده قطعا؛ لجواز أن يكون حكم ما لم يستقرأ بخلاف حكم ما استقرئ، فنظراً إلى هذا الاحتمال الضعيف، قلنا: إنه يفيد الحكم ظنا.
المذهب الثاني: أن الاستقراء ليس بحُجَّة، فلا يفيد الحكم قطعا ولا ظنا، وهو مذهب فخر الدين الرازي، وبعض العلماء.
دليل هذا المذهب: أنه يجوز اختلاف الجزئيات في الأحكام، واستقراء بعض الجزئيات - وإن كثرت - وترك بعض الجزئيات الآخر، يعتبر استقراء جزئيا، لا يثبت ذلك الحكم في الباقي المتروك؛ نظرا لجواز أن يكون حكم الأجزاء التي لم تستقرأ، مخالفا لما استقرئ، فينتج: أن الحكم على الباقي بواسطة هذا الاستقراء باطل.
جوابه: إن هذا الاحتمال الذي ذكرتموه هو الذي جعلنا نقول: إن الاستقراء الناقص يفيد الحكم ظنا؛ إذ لولا هذا لقلنا: إنه يفيده قطعا، فالباقي الذي لم يستقرأ قليل، والذي تم استقراؤه كثير، والقليل النادر ملحق بالغالب الكثير - كما قلنا - فهذا يوجد ظنا عند المجتهد بأن حكم الباقي يماثل حكم ما استقرئ، فنحن نظرنا إليه من هذه الحيثية. اهـ.
والله أعلم.