الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالخوف والرجاء يتجليان عند القيام بالعبادات ، إلا أن العبادات لا تقتصر على تلك الشعائر المعروفة ، وإنما تشمل كل مناحي الحياة ، فالعبادة التي خلقنا الله لأجلها هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، فهي ميدان واسع، وأفق رحب، تشمل الفرائض، والأركان، والنوافل، والمعاملات، والأخلاق، وتشمل كيان الإنسان كله، وجوارحه، وحواسه جميعها، فالمسلم يعبد الله تعالى في كل أوقاته وأحواله، فحياته كلها لله رب العالمين، كما قال تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. {الأنعام:162}. وقد سبق بيان ذلك في الفتويين 4476، 19569.
وأما سبيل تحقيقهما فإنه يبدأ بالعلم ، والعلم يثمر الحال ثم يثمر الحال العمل.
فبالنسبة للرجاء يقول أبو حامد الغزالي: "اعلم أن الرجاء من جملة مقامات السالكين وأحوال الطالبين ، وإنما يسمى الوصف مقاما إذا ثبت وأقام ، وإنما يسمى حالا إذا كان عارضا سريع الزوال ... فالرجاء أيضا يتم من حال وعلم وعمل ، فالعلم سبب يثمر الحال ، والحال يقتضى العمل ، وكان الرجاء اسما من جملة الثلاثة ... فالرجاء هو ارتياح القلب لانتظار ما هو محبوب عنده"
ويقول أيضا:" فإذا عرفت حقيقة الرجاء ومظنته فقد علمت أنها حالة أثمرها العلم بجريان أكثر الأسباب ، وهذه الحالة تثمر الجهد للقيام ببقية الأسباب على حسب الإمكان ، فإن من حسن بذره وطابت أرضه وغزر ماؤه صدق رجاؤه فلا يزال يحمله صدق الرجاء على تفقد الأرض وتعهدها وتنحية كل حشيش ينبت فيها ، فلا يفتر عن تعهدها أصلا إلى وقت الحصاد ، وهذا لأن الرجاء يضاده اليأس واليأس يمنع من التعهد" الإحياء.
ويقول ابن القيم: "الرجاء حاد يحدو القلوب إلى بلاد المحبوب ، وهو الله والدار الآخرة ، ويطيب لها السير. وقيل : هو الاستبشار بجود وفضل الرب تبارك وتعالى والارتياح لمطالعة كرمه سبحانه. وقيل : هو الثقة بجود الرب تعالى. والفرق بينه وبين التمني أن التمني يكون مع الكسل ولا يسلك بصاحبه طريق الجد والاجتهاد ، والرجاء يكون مع بذل الجهد وحسن التوكل ، فالأول : كحال من يتمنى أن يكون له أرض يبذرها ويأخذ زرعها ، والثاني : كحال من يشق أرضه ويفلحها ويبذرها ويرجو طلوع الزرع ، ولهذا أجمع العارفون على أن الرجاء لا يصح إلا مع العمل. قال شاه الكرماني : علامة صحة الرجاء : حسن الطاعة" مدارج السالكين.
وأما الخوف فيقول الغزالي:" اعلم أن الخوف عبارة عن تألم القلب واحتراقه بسبب توقع مكروه في الاستقبال.
ويقول أيضا:" حال الخوف ينتظم أيضا من علم وحال وعمل ... فالعلم بأسباب المكروه هو السبب الباعث المثير لإحراق القلب وتألمه وذلك الإحراق هو الخوف فكذلك الخوف من الله تعالى ، تارة يكون لمعرفة الله تعالى ومعرفة صفاته وأنه لو أهلك العالمين لم يبال ولم يمنعه مانع ، وتارة يكون لكثرة الجناية من العبد بمقارفة المعاصي ، وتارة يكون بهما جميعا ، وبحسب معرفته بعيوب نفسه ومعرفته بجلال الله تعالى واستغنائه ، وأنه لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون ، فتكون قوة خوفه ، فأخوف الناس لربه أعرفهم بنفسه وبربه ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: أنا أخوفكم لله ، وكذلك قال الله تعالى :{إنما يخشى الله من عباده العلماء}. ثم إذا كملت المعرفة أورثت جلال الخوف واحتراق القلب ، ثم يفيض أثر الحرقة من القلب على البدن وعلى الجوارح وعلى الصفات" الإحياء.
وانظر لمزيد الفائدة الفتويين: 25324، 208051.
والخوف والرجاء للمؤمن كجناحي الطائر ، يسير بهما إلى ربه متوازنا. وقيل: ينبغي أن يغلب جانب الخوف على الرجاء حال الصحة. وقيل: يختلف ذلك باختلاف حال العبد. وانظر الفتاوى أرقام: 65393، 32984، 261178.
والله أعلم.