الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنقول هنا على وجه الإيجاز والتبسيط: إن الأصوليين قد اصطلحوا على تسمية ما فيه نوع تخيير بين الفعل والترك مع ترجيح الفعل: بالمستحب أو المندوب، ومع ترجيح الترك: بالمكروه، تفريقا بينهما وبين المباح من ناحية، وبينهما وبين الواجب والمحرم من ناحية أخرى، فعبر بعضهم عن هذا المعنى بلازمه، وهو الثواب والعقاب، ووجه هذه القسمة، كما قال ابن قدامة في الروضة: أن خطاب الشرع إما أن يرد باقتضاء الفعل أو الترك أو التخيير بينهما، فالذي يرد باقتضاء الفعل أمر، فإن اقترن به إشعار بعدم العقاب على الترك، فهو ندب، وإلا فيكون إيجابًا، والذي يرد باقتضاء الترك نهي فإن أشعر بعدم العقاب على الفعل فكراهة، وإلا فحظر. اهـ.
فتبين بذلك أن هذا الاصطلاح مبناه على استقراء نصوص الشرع والتمييز بين أنواع خطابه ودلالاتها، وأن علماء أصول الفقه قد درجوا على ذلك وتتابعوا عليه، وإن كنا لا نعلم على وجه التحديد من أول من استعمل هذا الاصطلاح!
وأما مسألة الأمر ودلالته: فجمهور أهل العلم يحملون الأمر المجرد عن القرائن على الوجوب، لاتفاق أهل اللسان العربي على أن السيد لو قال لعبده: افعل، فلم يمتثل فأدبه لأنه عصاه، أن ذلك واقع موقعه مفهوم من نفس صيغة الأمر، ولأدلة كثيرة من الكتاب والسنة، كقوله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {النور: 63}. وقوله: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا {الأحزاب: 36}.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: لولا أن أشق على أمتي أو على الناس لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة. رواه البخاري ومسلم.
قال النووي: قَالَ جَمَاعَات مِنْ الْعُلَمَاء مِنْ الطَّوَائِف: فِيهِ دَلِيل عَلَى أَنَّ الْأَمْر لِلْوُجُوبِ، وَهُوَ مَذْهَب أَكْثَر الْفُقَهَاء وَجَمَاعَات مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَأَصْحَاب الْأُصُول. اهـ.
وأما حمل هؤلاء العلماء للأمر في بعض النصوص الشرعية على غير الوجوب من الإباحة أو الاستحباب: فذلك لكونها لم تأت مجردة عن القرائن، بل احتف بها ما يصرف الحكم عن الوجوب إلى غيره، قال الأستاذ الدكتور عبد الكريم النملة في كتابه المهذب في علم أصول الفقه المقارن: لقد اتفق القائلون إن الأمر المطلق يقتضي الوجوب، على أنه لا يصرف عنه إلا بقرينة، ولكنهم اختلفوا في نوع هذه القرينة على مذهبين:
ـ المذهب الأول: أن أيَّ قرينة قوية تصرف الأمر من الوجوب إلى غيره، وهذا مطلق، أي: سواء كانت نصاً، أو إجماعا أو قياساً، أو مفهوماً، أو فعلاً، أو مصلحة، أو ضرورة، أو سياق كلام، أو أية قرينة مقالية أو حالية تصلح أن تصرف الأمر من الوجوب إلى غيره، وهذا هو الحق، لأن القرينة مما ذكرنا تعتبر دليلاً شرعياً، فلو لم نأخذ بها للزم من ذلك ترك دليل شرعي قد ثبت، وهذا لا يجوز.
ـ المذهب الثاني: أن القرينة التي يؤخذ بها لصرف الأمر من الوجوب إلى غيره هي: نص آخر، أو إجماع فقط، وهو مذهب الظاهرية وعلى رأسهم ابن حزم... اهـ.
وقال الأستاذ الدكتور عياض السلمي في أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله: لما كانت الأوامر في الكتاب والسنة لا تخلو ـ غالبا ـ عن قرائن حالية أو مقالية، متقدمة أو متأخرة أو مصاحبة، وجدنا كلام العلماء في حمل الأوامر على الندب أو الوجوب لا يقف عند ذكر الأصل في معنى الأمر، وإنما يؤيد كل منهم رأيه في المسألة الخاصة الوارد الأمر بها بأدلة وقرائن أخرى، والمتتبع لكلام الفقهاء يجدهم يحملون الأمر على الوجوب، إلا إذا وجدت قرينة صارفة أو عارض الأمر دليل آخر. اهـ.
ومن أمثلة ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم: إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين. متفق عليه.
فهذا الأمر مصروف عن الوجوب إلى الندب عند جمهور العلماء، لعدة قرائن، منها: ما تواترت به النصوص من كون الصلوات المفروضات خمسا في اليوم والليلة، وما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من عد جميع ما يزيده المسلم عليها تطوعا.
والله أعلم.