الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فهذا الحديث رواه الترمذي، وابن حبان، وغيرهما عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ لِلشَّيْطَانِ لمَّةً، وللمَلَكِ لَمَّةً، فَأَمَّا لَمَّةُ الشَّيْطَانِ فإيعادٌ بِالشَّرِّ، وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ، وَأَمَّا لَمَّةُ الْمَلَكِ فإيعادٌ بِالْخَيْرِ، وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ، فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ الْأُخْرَى فَلْيَتَعَوَّذْ مِنَ الشَّيْطَانِ، ثُمَّ قَرَأَ {الشيطان يعدكم الفقر ...} الآية [البقرة: 268]، حسنه الألباني.
وليس في هذا الحديث أن أي شر مصدره الشيطان، وإنما هو سبب للشر، والله سبحانه وتعالى بيده الهداية، والإضلال، فيهدي من يشاء بفضله، ورحمته، ويضل من يشاء بعدله، وحكمته، وهو أعلم بمواقع فضله، وعدله إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى {النجم:30}.
وفي الحديث نسبة الشر إلى الشيطان، لا إلى الله، مع أنه سبحانه هو خالقه، وموجده، وذلك من حسن الأدب مع الله تعالى، يوضح ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ حيث يقول: وَاللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ خَالِقًا لِكُلِّ شَيْءٍ، فَإِنَّهُ خَلَقَ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ الَّتِي بِاعْتِبَارِهَا كَانَ فِعْلُهُ حَسَنًا مُتْقَنًا، كَمَا قَالَ: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ} [سُورَةُ السَّجْدَةِ: 7]، وَقَالَ: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [سُورَةُ النَّمْلِ: 88]، فَلِهَذَا لَا يُضَافُ إِلَيْهِ الشَّرُّ مُفْرَدًا، بَلْ إِمَّا أَنْ يَدْخُلَ فِي الْعُمُومِ، وَإِمَّا أَنْ يُضَافَ إِلَى السَّبَبِ، وَإِمَّا أَنْ يُحْذَفَ فَاعِلُهُ، فَالْأَوَّلُ: كَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [سُورَةُ الزُّمَرِ: 62]، وَالثَّانِي: كَقَوْلِهِ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [سُورَةُ الْفَلَقِ: 1، 2]، وَالثَّالِثُ كَقَوْلِهِ فِيمَا حَكَاهُ عَنِ الْجِنِّ: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [سُورَةُ الْجِنِّ: 10]، وَقَدْ قَالَ فِي أُمِّ الْقُرْآنِ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [سُورَةُ الْفَاتِحَةِ: 6، 7]، فَذَكَرَ أَنَّهُ فَاعِلُ النِّعْمَةِ، وَحَذَفَ فَاعِلَ الْغَضَبِ، وَأَضَافَ الضَّلَالَ إِلَيْهِمْ، وَقَالَ الْخَلِيلُ [عَلَيْهِ السَّلَامُ] {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [سُورَةُ الشُّعَرَاءِ: 80]؛ وَلِهَذَا كَانَ لِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى، فَسَمَّى نَفْسَهُ بِالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى الْمُقْتَضِيَةِ لِلْخَيْرِ، وَإِنَّمَا يُذْكَرُ الشَّرُّ فِي الْمَفْعُولَاتِ، كَقَوْلِهِ: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 98]. انتهى.
وقال ابن القيم ـ رحمه الله ـ في شفاء العليل: إن الرب سبحانه لا يفعل سوءًا قط، بل فعله كله حسن، وخير، وحكمة، كما قال تعالى: بيدك الخير، وقال أعرف الخلق به صلى الله عليه وسلم: والشر ليس إليك، فهو لا يخلق شرًّا محضًا من كل وجه، بل كل ما خلقه ففي خلقه مصلحة، وحكمة، وإن كان في بعضه شر جزئي إضافي، وأما الشر الكلي المطلق من كل وجه، فهو تعالى منزه عنه، وليس إليه. انتهى. وللفائدة يرجى مراجعة هاتين الفتويين التالية أرقامهما: 142151، 226675.
وأما عن سؤالك هل من الممكن أن يلهم الله عبدًا بطريقة ما أنه سيموت كافرًا؟ فهذا السؤال من وساوس الشيطان، ويفتح بابًا لسوء الظن بالله، وما يدريه من وقع في قلبه أنه سيموت كافرًا أن ذلك إلهام من الله.
والله أعلم.