الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فننبه -أولًا- إلى إن الأحكام الشرعية منها ما عرفت علته، ومنها ما لم تعرف علته -كما هو معلوم-، والتعليل يكثر في باب العادات والمعاملات، ويقل في باب العبادات؛ إذ الأصل فيها عدم التعليل؛ يقول الإمام الشاطبي في الموافقات: إن الشارع غلَّب في باب العبادات جهة التعبد، وفي باب العادات جهة الالتفات إلى المعاني، والعكس في البابين قليل. اهـ.
وحيث قلنا: إن العبادات الأصل فيها عدم التعليل؛ فمعنى هذا: أن هناك بعض العبادات المعللة، وهي التي يجري فيها القياس بخلاف العبادات والأحكام التي لم تعرف علتها، فلا قياس فيها؛ لأن العلة ركن أساسي في القياس، وإذا لم تعرف فلا يصح القياس، وكل حكم شرعي عرفت علته، فإنه يصح القياس عليه عند جمهور أهل العلم وفق الضوابط المبينة في كتب أصول الفقه؛ يقول الإمام الغزالي في المستصفى: كُلُّ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ أَمْكَنَ تَعْلِيلُهُ فَالْقِيَاسُ جَارٍ فِيهِ. اهـ.
إذا علم هذا، واتضح للسائل الكريم ما تقدم، فإننا نقول -جوابًا لسؤاله-: إن وجه استشكاله هو ما حصل لديه من خلط بين العلة والحكمة؛ فإن العلة: هي التي يناط بها الحكم. أما الحكمة: فهي مَا يَتَرَتَّب على ربط الحكم بعلته أَو سَببه، من جلب للمصالح أو دفع للمضار؛ جاء في رعاية المصلحة: وَالْفرق بَين الْعلَّة وَالْحكمَة: أَن الْعلَّة: هِيَ الْوَصْف الْمُنَاسب المعرّف لحكم الشَّارِع، وباعثه على تشريع الحكم، كالإسكار عِلّة لتَحْرِيم الْخمر. وَالْحكمَة: مَا يجتنيه الْمُكَلف من الثَّمَرَة المترتبة على امْتِثَال حكم الشَّارِع من جَلب نفع أَو دفع ضرّ، كحفظ الْعقل من تَحْرِيم الْخمر.
وَعلة الْقصاص: الْقَتْل الْعمد والعدوان، وحكمته: حفظ النَّفس.
وَالسَّرِقَة: عِلّة الْقطع، وَالْغَصْب: عِلّة الضَّمَان، وَالْحكمَة فيهمَا: حفظ المَال.
وَالزِّنَا: عِلّة الْحَد، وحكمته: حفظ الْأَنْسَاب. اهـ.
وبالتالي؛ فالحكمة التي شرع لها الحكم لا يصلح بها التعليل، ولا يُستند عليها عند القياس، بخلاف العلة، وقد أشار أمام الحرمين إلى نحو هذا المعنى بقوله: والضرب الخامس: متضمنه العبادات [البدنية] التي لا يلوح فيها معنى مخصوص، لا من مآخذ الضرورات، ولا من مسالك الحاجات، ولا من مدارك المحاسن، كالتنظيف في الطهارة، والتسبب إلى العتاقة في الكتابة، ولكن يتخيل فيها أمور كلية تحمل عليها المثابرة على وظائف الخيرات، ومجاذبة القلوب بذكر الله تعالى، والغض من العلو في مطالب الدنيا، والاستئناس بالاستعداد للعقبى.
فهذه أمور كلية، لا ننكر على الجملة أنها غرض الشارع في التعبد بالعبادات البدنية، وقد أشعر بذلك نصوص من القرآن العظيم في مثل قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}. ولا يمتنع أيضًا أن يتخيل فيها أمر آخر، وهو: أن الإنسان يبعد منه [ الركون ] إلى السكون فالقوى المحركة تحركه لا محالة؛ فإن تركت تحركت في جهات الشهوات، وإذا استحثت بالرغبة والرهبة على العبادات انصرفت حركاتها إلى هذه الجهات، وهذا فن لا يضبطه القياس، ولا يحيط به نظر المستنبط، والأمر فيه محال على أسرار الغيوب، والله تعالى المستأثر به؛ فلا يسوغ اعتبار ضرب إحداها في جهة اختصاصها، ولا يسوغ اعتبارها في إثبات قضيتها الخاصة بغيرها من الضروب، فإنا منعنا اعتبار ضرب بضرب فيما لا يستند إلى ضرورة وحاجة، وإن كان يغلب على الظن [تعين] مقصود منه على منهاج الأمر بالمحاسن، فلأن يمتنع ذلك من العبادات التي لا يتعين منها مقصد [أولى وأحرى]. اهـ.
ومما تقدم يتبين لك أن تساؤلاتك مبنية على افتراضات غير صحيحة، وذلك لأن:
1- كون الأصل في العبادات التعبد أو عدم الالتفات إلى المعاني لا يلزم منه منع القياس في العبادات إذا توفرت شروطه وأركانه -كما تبين-، وإنما المقصود: أن العبادات يقل فيها التعليل؛ لأن كثيرًا منها توقيفي لا تعرف علته، وما لم تعلم علته لا يجري فيه القياس، وأما ما علمت علته فالقياس جار فيه -كما تقدم-، وراجع لمزيد الفائدة الفتوى رقم: 64292.
2- لا نسلم بكون أكثر العبادات معقول المعنى -كما يفهم من كلام السائل-، بل العكس هو الصحيح، وهو أن الغالب في العبادات، وخصوصًا البدنية منها، أنها غير معقولة المعنى بالنسبة للبشر، وبالتالي؛ فالتعبد فيها هو الأصل، وراجع فتوانا رقم: 20981.
والله أعلم.