الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن المؤمن لا حرج عليه في أن يعمل العمل الصالح، ويريد به في الأساس وجه الله تبارك وتعالى والدار الآخرة، ويلتمس مع ذلك أن يثيبه الله عليه ثوابا دنيويا معجلا، وهذا ضرب من التوسل بالعمل الصالح المشروع، فالنصوص مستفيضة في ذكر ثواب الدنيا وحسنتها للمؤمن على الأعمال الصالحة، قال ابن سعدي ـ في شرحه لحديث: مَنْ أحبَّ أَنْ يُبسط لَهُ فِي رِزْقِهِ، ويُنسأ لَهُ فِي أثَره، فليَصِلْ رحمه. متفق عليه: وفي هذا الحديث دليل على أن قصد العامل ما يترتب على عمله من ثواب الدنيا لا يضره إذا كان القصد وجه الله والدار الآخرة، فإن الله بحكمته ورحمته رتب الثواب العاجل والآجل، ووعد بذلك العاملين؛ لأن الأمل واستثمار ذلك ينشط العاملين، ويبعث هممهم على الخير، كما أن الوعيد على الجرائم، وذكر عقوباتها مما يخوِّف الله به عباده ويبعثهم على ترك الذنوب والجرائم، فالمؤمن الصادق يكون في فعله وتركه مخلصاً لله، مستعيناً بما في الأعمال من المرغبات المتنوعة على هذا المقصد الأعلى. اهـ. من بهجة قلوب الأبرار .
فلا حرج في العبادة ـ بالصدقة أو غيرها ـ ابتغاء وجه الله أولا مع إرادة صلاح الأبناء أو الوظيفة أو غير ذلك.
والعمل الصالح قد يثاب عليه المؤمن أيضا في أبنائه وذريته، قال ابن رجب: وقد يحفظ الله العبد بصلاحه في ولده وولد ولده، كما قيل في قوله تعالى: {وكان أبوهما صالحا} [الكهف: 82]: إنهما حفظا بصلاح أبيهما، وقال محمد بن المنكدر: إن الله ليحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده وقريته التي هو فيها، والدويرات التي حولها، فما يزالون في حفظ من الله وستره، وقال ابن المسيب لابنه: يا بني لأزيدن في صلاتي من أجلك، رجاء أن أحفظ فيك، وتلا هذه الآية: {وكان أبوهما صالحا} [الكهف: 82]، وقال عمر بن عبد العزيز: ما من مؤمن يموت إلا حفظه الله في عقبه وعقب عقبه. اهـ.
لكن يحسن التنبه إلى أن الأكمل أن ينوي المؤمن ثواب الآخرة فحسب، دون التفات لثواب الدنيا، فإن كل نعيم عاجل يحصل عليه المؤمن في الدنيا، فهو ينقص أجره في الآخرة، ولو لم يرده بعمله الصالح، فكيف إذا كانت من جملة مقاصده؟ كما جاء في الحديث: ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم من الآخرة ويبقى لهم الثلث، وإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم. رواه مسلم.
قال النووي: وأما معنى الحديث فالصواب الذي لا يجوز غيره أن الغزاة إذا سلموا أو غنموا يكون أجرهم أقل من أجر من لم يسلم أو سلم ولم يغنم، وأن الغنيمة هي في مقابلة جزء من أجر غزوهم، إذا حصلت لهم فقد تعجلوا ثلثي أجرهم المترتب على الغزو، تكون هذه الغنيمة من جملة الأجر، هذا موافق للأحاديث الصحيحة المشهورة عن الصحابة كقوله: منا من مات ولم يأكل من أجره شيئا ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها أي يجتنيها فهذا الذي ذكرنا هو الصواب وهو ظاهر الحديث ولم يأت حديث صريح صحيح يخالف هذا فتعين حمله على ما ذكرنا وقد اختار القاضي عياض معنى هذا الذي ذكرناه. اهـ.
وفي عدة الصابرين ـ في الكلام عن المفاضلة بين الفقر والغنى ـ: أن الفقر يوفر أجر صاحبه ومنزلته عند الله، والغني ولو شكر فإن ما ناله في الدنيا بغناه يحسب عليه من ثوابه يوم القيامة وإن تناوله بأحل وجه، فقليل الفضل في الدنيا ناقص من كثير الآخرة، وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله قال: "ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم من الآخرة، ويبقى لهم الثلث وان لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم"، وفي الصحيحين عن خباب بن الأرت ـ رضي الله عنه ـ قال: "هاجرنا مع رسول الله نلتمس وجه الله فوقع أجرنا على الله، فمنا من مات لم يأكل من أجره شيئا؛ منهم مصعب بن عمير ـ رضي الله عنه ـ قتل يوم أحد وترك بردة فكنا إذا غطينا بها رأسه بدت رجلاه، وإذا غطينا رجلاه بدا رأسه، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نغطي رأسه ونجعل على رجليه شيئا من الإذخر، ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهديها"، وفي الصحيحين عن قيس بن أبي حازم قال دخلنا على خباب نعوده وقد اكتوى سبع كيات فقال: إن أصحابنا الذين سلفوا مضوا ولم تنقصهم الدنيا وذكر الحديث، وقال سعيد بن منصور حدثنا معاوية عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: "ما أوتي عبد من الدنيا شيئا إلا نقص من درجاته عند الله وإن كان عليه كريما". اهـ.
وانظري الفتويين التالية أرقامهما: 121733، ورقم: 112522.
والله أعلم.